ما خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان على ما خلقه عليه من تركيب جسمي دقيق، وما أخرجه إلى الدنيا وفق هذا النظام البديع، وما قلَّبه من نطفة إلى علقة، ومن علقة إلى مضغة، وما جعل المضغة عظاماً، وما كسا العظام لحماً، ثم جعلك إنساناً سويّاً، وما أخرجك إلى هذه الدنيا طفلاً، وما جعلك تبلغ أشدّك، ثم تكون من بعد ذلك شيخاً إلا لتفكِّر، وما جعل للموت رهبته، وللقبر ظلمته ووحشته إلاَّ لتفكِّر...
لقد كان بإمكانه تعالى أن يُخرجك إلى الدنيا طفرة واحدة وإنساناً كاملاً دون أن يقلِّبك بهذه الأطوار وينقلك من حال إلى حال وبإمكانه تعالى أن يذهب بك ويُخفيك عن الأنظار دون أن يجعل الموت سبباً لخروجك من هذه الحياة. فهلاَّ كان لك من ذلك كله عبرة وذكرى؟
ومن اليسير عليه تعالى أن يجعل نظام حياتك بخلاف كل ما تراه. فبإمكانه تعالى ألاَّ يجعلك على ظهر الأرض وهي تدور في الفضاء حول نفسها دون انقطاع، ومن اليسير عليه تعالى أن يجعل رزقك على غير هذه الصورة وهذا النظام، فلا ضرورة لبحار ورياح ولا ضرورة لتبخُّر وسحاب، ولا ضرورة لثلوج ورعود وبرق وأمطار، ولا لنباتات وأزهار وأثمار...
لكنها الرحمة الإلۤهية بك والعناية والرأفة تحوطك وتحرِّضك في كل ما تشاهده وتقع عليه عينك وتحس به جوارحك وتدركه نفسك فلعلَّك تفكِّر في آيات هذا الكون وما قامت عليه من حكمة بالغة فتُهدى منها إلى الله.
فسبحانك ربِّي ما أرحمك بهذا الإنسان وما أرأفك بهذا المخلوق وما أحلمك عليه وما أوسع فضلك وإحسانك إليه!
ينام وعينك ساهرة ترعاه، ويكفر بك وإحسانك متوارد عليه لا ينقطع في الليل ولا في النهار، ويعصيك ويدك مبسوطة في النهار ليتوب مُسيء الليل، ومبسوطة بالليل ليتوب مُسيء النهار، وأنت الغني الحميد وهو الفقير إليك والمحتاج، أعددت له في الآخرة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأخرجته إلى الدنيا ليتأهَّل إلى ذلك النعيم... فألهته الدنيا الدنية بمتعتها وشغلته أموالها وزينتها عن ذلك الغرض الأسمى.