في الآيات الكريمة من سورة الانفظار يريد الله تبارك وتعالى أن يبيِّن للناس أنه لا بدّ لهم من يوم ترى فيه كل نفس ما قدَّمت من الأعمال، وأنه في ذلك اليوم لا تنفع الإنسان شفاعة الشافعين، فلا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً والأمر يومئذٍ لله، ومثل الناس يومئذ بين يدي الله كطفل نصحه والده بألاَّ يلعب بالسكِّين الحادَّة فما ألقى لكلام والده بالاً بل ذهب يلعب بها حتى قُطعت يده، وجُرحت جرحاً بليغاً، فوقف ينظر إلى ما كسبت يداه أفَتراه إذا صار بين يدي الطبيب ليداويه هل يتقدَّم من هذا الطبيب أحدٌ من أهله وذويه فيطلب منه أن يتركه وشأنه؟ ذلك هو حال الخلْق يوم القيامة بين يديْ رب العالمين! فهو يسوق لكل امرئ ما يناسبه وهو الحكيم العليم.
وقد بدأ تعالى السورة بآيات تبيِّن لنا ما يقع من الحوادث قبل أن يقوم الناس لرب العالمين. فقال جلّ شأنه: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ﴾. ونبدأ بالآية الأولى:
﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ﴾
فنقول: انفطرت: أي رجعت إلى فطرتها التي خلقها الله تعالى عليها، وعادت إلى حالها الأول إذ أن كلمة (انفَطَرَتْ) مأخوذة من فطر، نقول: فطر الأمر، أي: اخترعه، ومنه الفطرة، أي: الصفة التي يتّصف بها كل موجود منذ الخلْق الأول (عالم الأزل). ويكون ما نفهمه من كلمة (انفَطَرَتْ): أي: رجعت إلى فطرتها الأولى يوم أن خلقها الله، وقبل أن تكون محيطة بهذا الكون جامعةً لما فيه من الموجودات، وبشيء من التفصيل نقول:
خلق الله تعالى المخلوقات، وألبس كل شيء ثوب الوظيفة المناسبة له، فجعل السماء كما ذكرنا من قبل، محيطة جامعة لهذا الكون، وهي أشبه والحالة هذه بقشرة البطيخة التي تجمع ما فيها من لب وعروق وبذور، فإذا كان يوم القيامة انفطرت السماء، أي: عادت لفطرتها من قبل أن تلبس ثوب وظيفتها، فعادت نفساً مجرّدة، ولكن ماذا يتلو هذه الحادثة؟ لقد بيَّن لنا تعالى ذلك بقوله:
﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ﴾:
والكواكب: جمع كوكب مأخوذة من كوكبَ، بمعنى: توقَّدَ وبرق، وهي أيضاً بمعنى اجتمع والتفَّ حول غيره.
فهذه النجوم كلها إنما هي كواكب في توقُّدها وبريقها، وإنما هي أيضاً كواكب في اجتماعها حول الأرض عاملة على تأمين سيرها المنتظم وتنقُّلها. وانتثرت: مأخوذة من نثر، بمعنى: رمى وفرَّق. تقول: نثر المزارع الحب، أي: ألقاه متفرِّقاً على غير نظام وترتيب، ومنه انتثر الشيء أي وقع وتساقط متفرِّقاً. ويكون ما نفهمه من هذه الآية:
أي أنه إذا انكشفت السماء المحيطة بهذه الكواكب والجامعة لها على هذا النظام البديع، فعند ذلك تنتثر الكواكب متفرقة متشتتة، وتخرج عن هذا النظام البديع، كما تنتثر الحبّات المنظومة في عقد اللؤلؤ إذا انقطع خيطها الناظم لها.
﴿وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ﴾:
وفُجِّرت: مأخوذة من فجر، بمعنى: خرج عن موضعه المخصص به، ومنه: انفجر، نقول: انفجرت أنابيب المياه، أي: تصدّعت وخرج الماء منها مندفعاً. فهذه البحار الملأى بالماء لو نظرت إلى سطحها الواسع الممتد لوجدته منحنياً محدّباً إذ الأرض كرة سابحة في الفضاء! والعلم البشري لا يشك أن هذه الكواكب المحاطة بالسماء إنما تقوم بقوة ضاغطة تؤثِّر على سطح الأرض تأثيراً متجهاً من السطح إلى المركز وبذلك تجد المياه ملازمة مواضعها من البحار.
فإذا انفطرت السماء. وانتثرت الكواكب وزالت تلك القوة الضاغطة فهنالك تتفجّر البحار ويذهب ماؤها وترجع لحالها الأول يوم خلق الله الأرض. وتُمَدُّ الأرض فيغدو سطحها ممتداً امتداداً واسعاً لا يكاد يُدْرَك له حدّ أو نهاية، وساعتئذٍ تبعثر القبور ويخرج منها الناس، ولذلك قال تعالى:
﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ﴾:
والقبور: جمع قبر، وهو المكان والموضع الذي يدفن فيه الإنسان، يُقال: قَبَرَ الميت، أي: دفنه. وبعثرت: مأخوذة من بعثر، بمعنى: بدَّدَ وفرَّق، تقول: بعثر الهواء الأوراق، أي: فرَّقها عن بعضها على غير نظام، وجعلها مبدَّدة هنا وهناك.
ويكون ما نفهمه من هذه الآية: أي: عندما تزول السماء وتنتثر الكواكب ويزول الضغط عن الأرض تُبَدَّدُ ذرات التراب المتماسكة التي شدَّها إلى بعضها ذلك الضغط وتلك القوة فتتفرَّق متبددة، ويتبع ذلك خروج الناس من قبورهم للوقوف بين يدي ربهم وحينئذٍ ترى كل نفس ما عملت قال تعالى:
﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾:
وعَلِمَتْ: أي شاهدت واطّلعت ومن ذلك قوله تعالى: {... إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} سورة آل عمران – الآية:119. أي: مُطَّلع ومشاهد. وقدَّم الشيء: أي: جعله أمامه وحاضر بين يديه. وأخَّر: ضد قدّم، أي: جعله لوقت آخر. ويكون ما نفهمه من هذه الآية:
أي أنه إذا كان يوم القيامة، وحدثت تلك الحوادث التي أوردها الله تعالى في مطلع هذه السورة، ووقف الناس بين يدي ربهم، فهنالك تشاهد كل نفس وترى ما قدَّمت في دنياها من خير أو شر. كما تشاهد وترى ما أخَّرت أي: ما ستُكافأ به من الإحسان لقاء ما قدَّمته من عملها الطيب أو ما ستصير إليه من العذاب لقاء ما قدَّمته من السوء، فعملها الذي قدَّمته وكل ما صدر منها في الدنيا، تجده يومئذٍ حاضراً ماثلاً بين عينيها، وجزاؤها على أعمالها تشاهده أيضاً وتطَّلع عليه.
فهي بين عمل صدر منها لا يغيب عنها، وبين جزاء ستناله ماثل أمامها، ذلك ما نفهمه من آية: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾.
وما مثل الإنسان المسيء يومئذٍ إلا كرجل اقترف جريمة ووقف بين يدي الحاكم، فهو ساعتئذٍ يرى ما قدَّم من العمل عند اقتراف الجريمة، كما يرى العقوبة التي أخَّرها لنفسه والتي ستُطبَّق عليه بسبب جرمه، وكذلك حال المحسن المطيع يرى الماضي والمستقبل أي: يرى العمل والنتيجة والجزاء.