لقد خلق الله تعالى الإنسان وميَّزه عن باقي الكائنات بالفكر، وخلق له الكون وجعل فيه آيات دالَّة عليه سبحانه، وجعل تسيير هذا الكون ضمن نظام وقوانين دقيقة، ذلك ليفكِّر هذا الإنسان ويهتدي، إن فكَّر بما في الكون من آيات وخلق استعظمه وباستعظامه لهذا الكون ينتقل إلى استعظام خالقه ومربيه ومسيّره فيؤمن به تعالى إيماناً شهودياً يقينياً. إذن التفكير أساس ولا يؤمن الإنسان إلا بواسطته، لذلك بدأ سبحانه وتعالى هذه السورة ببعض الآيات الكونية لنفكِّر ونهتدي، فلفت نظرنا إلى المطر؛ هذه الذرّات من الماء المتماسكة ينزل ذرَّات، كيف تُحمل هذه الذرَّات من بخار الماء؟ يقول سبحانه وتعالى في سورة الذاريات:
﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾:
أشعة الشمس التي تسطع على مياه البحار والمحيطات وتغوص فيها على عمق مائتي متر تقريباً، فتبخِّر مياهها وتذروها ذرَّات على شكل بخار الماء متفرقةً تصعد في السماء، وعملية التبخير لا نراها بأعيننا، حتى تتشكَّل مجتمعة غيوماً. من يحملها لك ويأتيك بها ذرَّات على شكل قطرات؟ لو نزلت هذه الذرات كتلة واحدة لدمَّرت ما على الأرض ولما استفاد منها أحد، فانظر أيها الإنسان إلى رحمة الله وعطفه وحنانه وفضله عليك.
﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾:
كيف تُحمل هذه الذرات على شكل سحب تحمل الحياة إلى النبات، فخيرات الخلق كلها محمولة بالغيوم وتأتي عن هذا الطريق {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} سورة الذاريات – الآية:22. ﴿وِقْرًا﴾: هذه الذرَّات أصبحت سحباً تحمل ماءً ثقيلاً، فالوقر هو الحمل الثقيل، فالغيوم تحمل أطناناً لا عدّ لها من المياه، فهي تحمل أحمالاً ثقيلة من المياه وتتضمن مياه أنهار العالم وينابيعها، كما تتضمّن المخلوقات البشرية التي حملت التكليف، وكذا الأنعام والنباتات وجميع المخلوقات.
لما خرج رسول الله ﷺ إلى بدر، وقبل أن يلتقي فيها جيشه بجيش قريش فيقع بينهما القتال، لقي في طريقه شيخاً من العرب، فسأله عن محمد وقريش، وما بلغه من خبر الفريقين... فقال له الشيخ: لا أُخبرك حتى تخبروني ممن أنتم؟
فقال رسول الله ﷺ: إذا أخبرتنا أخبرناك.
فقال الشيخ: خُبِّرت أن قريشاً خرجت من مكة وقت كذا، فإن كان الذي خَبَّرني صدَقَ، فهي اليوم بمكان كذا "للموضع الذي به قريش"، وخُبِّرت أن محمداً خرج من المدينة وقت كذا، فإن كان الذي خَبَّرني صدق فهو اليوم بمكان كذا "للموضع الذي فيه رسول الله"، ثم قال الشيخ: ممّن أنتم؟
فقال رسول الله: نحن من ماء.
ثم انصرف، فجعل الشيخ يقول: نحن من ماء! من ماء العراق، أو ماء الشام، أو ماء مصر...!
وكان الرسول ﷺ يقصد بقوله من ماء الآية الكريمة: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} سورة الأنبياء – الآية:30.
﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا﴾:
ثم تجري هذه السحب رغم وزنها الهائل بيسر وسهولة، وتسير هذه السحب دون صوت، فهذه الكميات الهائلة من المياه تحملها السحب وكأنها جبال تسير دون ضوضاء، وإذا طارت طائرة وحلَّقت في الأجواء تُصِمُّ بضجيجها آذان من تحتها من أهل الأرض، أما الغيوم والتي تحمل هذه الأوزان الثقيلة تسير وتجري وفيها مليارات من الأطنان من الماء تسير دون ضجيج وليس لها أصوات. هذا صنع الإلۤه الرحيم اللطيف، وتجري بلطف إلى البلاد التي يريدها الله، وبنزولها أمطاراً تَسُرُّ وتجلب البشرى للبشر إذ بهطولها تخرج المواسم والخيرات والأرزاق ويُسَرُّ بذلك الناس إذ تيسّر أمور معاشهم وطعامهم وشرابهم.
﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا﴾:
تنزل مياهها بمقدار وبمكان معيَّن، تهطل بأمكنة معيَّنة ويذهب كل ما فيها من حياةٍ لمكانه المناسب، فالذي يأتي منها للبشر غير الذي يأتي منها للنبات والشجر والطيور والأنعام، فلكلٍّ منها ما يناسبه.
والحقيقة: يدُ الله هي التي تُجري كلَّ هذا وليس هذه الذرَّات، إنما الله خوَّلها هذه الوظيفة والله من ورائها الممد.
فتلك الذرَّات لا فكر لديها لتدير وتخلق وتُنمي وتمدٌّ بالسمع والبصر والفكر والأعضاء، هذه الأطعمة والأشكال والحجوم والألوان والبذور والبنين والبنات كلها من الله، فهل هذه الذرَّات تفهم حتى تُخرج كل هذه الأشياء؟ إذا الإنسان لم يؤمن يقع بالشرك، يقول: قوانين وأنظمة "طبيعة" وينسى الله فيقع بالشرك ويرضى به.
﴿أَمْرًا﴾: فيها أمر من الله لحياتك ومعاشك أيها الإنسان. لولا الماء ما أكلت طعاماً فلا حياة لك: فكِّرْ بهذا الفضل عليك، من جعل لك هذا؟ من خلق لك الماء وأنزله وأنبت به النبات وأحيا به الأرض؟ إن فكَّرت بهذا الفضل والعطاء آمنت بلا إلۤه إلا الله إيماناً شهودياً فيصبح لك نورٌ من الله سبحانه عندها تشاهد وتعلم أن وعد الله حق.