في سورة القارعة الكريمة يبيِّن لنا سبحانه وتعالى شأن ذلك اليوم الذي تقع فيه الصيحة، فيقف الخلق جميعاً بين يديه سبحانه. وهنالك يتقرر المصير ويكون الفصل بين الشقي والسعيد، ففريقٌ في الجنَّة، وفريقٌ في السعير، ويقف الناس يومئذ عامّة بين يدي الله سبحانه على صعيد واحد للحساب، ويؤتى بالنبيين والشهداء، وتبدو لكل إنسان أعماله التي أسلفها في حياته الدنيا، وتخشع الأصوات للرحمن، فلا تسمع إلا همساً، وتعنو الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً، وتوضع الموازين القسط لذلك اليوم العظيم، وتوزن لكل امرئ أعماله، ويخاف الناس، وتَجِلُ القلوب. وقد أشارت إلى طرف من ذلك الآية الكريمة في قوله تعالى:
﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾
والموازين: جمع ميزان. وثِقلُ الميزان إنما يكون على حسب ما يوضع فيه من عمل ثقيل. ويكون العمل الثقيل ثقيلاً على حسب ما فيه من نيَّةٍ صادقة وإخلاص.
فالعمل الذي يريد به صاحبه وجه الله تعالى، ولا يبتغي من ورائه فائدةً دنيوية ولا منفعة شخصية، هذا العمل يكون ثقيلاً لما انطوى عليه من الصدق، ولما ينشأ عنه من الخير. فقد يتكلم الإنسان بكلمةٍ تكون سبباً في هداية شخص، ومن ورائه أشخاص كثيرون، فهذه الكلمة إنما هي ثقيلة عند الله لما يتولد عنها من الخيرات. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} سورة إبراهيم – الآية:24-25.
ولكن ما هو المراد من ثقل الميزان؟
إن ثقل الميزان لا يعني رجحان كفةٍ على كفة، إنما المراد أن تتكوَّن لدى الإنسان الثقة بإحسانه، تلك الثقة التي تُنسيه كلَّ سيئةٍ.
فإذا قدَّم الإنسان عملاً من أعمال الخير العظيمة، فعندها يرجح عمله على سيئاته، فتنسى نفسه كل سيئة. وبنسيانها لسيِّئاتها يتيسَّر لها طريق الإقبال على ربِّها، وبإقبالها يحصل الشفاء والطهارة، وتخلص بذلك من كل علَّة، وتصبح أهلاً لكل إكرام ونعمة، فتدخل الجنة، ويغمرها الله بإحسانه، وتحيا حياةً طيبة، وهذا ما تعنيه آية: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾.
فهذا الإنسان إنما هو في عيشة راضية لما يُقدَّم له من الإكرام الإلهي العظيم، ذلك الإكرام التام المتمادي في الازدياد، والذي لا تشوبه شائبة، ولا يَعْرُضُ له نقصان.
{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ، فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}:
وتفصيلاً لهذا نقول:
جميع أهل الترف والبذخ الذين قاموا بما قاموا به في دنياهم من أعمال إشباعاً لرغباتهم الدنية ولحاقاُ بشهواتهم المنحطة، وإن شئت فاقرن إليهم أولئك الذين يتظاهرون بالخير والإحسان، وما الدافع لهم إلى أعمالهم إلا المطامع الدنيوية والغايات الشخصية. هؤلاء جميعاً ستنكشف لهم يوم القيامة حقائقهم، وستتراءى لهم نواياهم وغاياتهم، فيرون أعمالهم خفيفاً وزنُها وضيعة قيمتها منحطاً شأنها، ذلك بعض ما انطوت عليه كلمة: (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ).
فالعامل والصانع والتاجر وكذلك الطبيب والمعلِّم والقاضي والمهندس، وإن شئت فقل: كل امرئ مهما يكن عمله ووظيفته إذا لم تكن له في أعماله نيَّة عالية، ومقاصد إنسانية نبيلة، هؤلاء جميعاً ستكون أعمالهم غداً خفيفة الوزن وبالتالي: ستكون موازينهم خفيفة. أما مصير هؤلاء ومرجعهم فإلى النار حتماً، وذلك ما أشارت إليه كلمة: (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ).
يقف أحدهم غداً بين يدي ربه خجلاً من أعماله إذ لا يجد لنفسه نيّة حسنة ولا عملاً صالحاً يُقبل به على الله، ويمنعه الخجل ويحول بينه وبين ربِّه الحياء وبذلك يبقى مريض النفس عليلها، ويشتد عليه المرض ويتفاقم الألم وترهقه المذلَّة والعار فلا يجد لنفسه خيراً من النار. ولعلَّك تقول: لماذا عبَّر الله تعالى عن النار بكلمة: (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ).
وفي الجواب عن هذا نقول:
لقد سُمِّيت الوالدة أمّاً لأن الطفل إذا أصابته المكاره، ونزلت به الملمّات يؤمُّها ويقصدها فيجد في أحضانها العطف والرحمة، والأمان من المخافة، والخلاص من الشدَّة.
وكذلك النار يومئذ لهؤلاء المجرمين الذين خفَّت موازينهم فهي أمُّهم إذ يؤمُّونها ويهوون فيها فيجدون في حريقها ستراً لآلامهم النفسية وعللهم المعنوية، ويشتدّ عليهم عذاب الحريق، وتتزايد شدَّته حتى يبلغ درجة لا يعودون يشعرون معها بعذاب الضمير والوجدان، فتراهم وقد غابوا بعذاب الحريق ولذع النار عمَّا كانوا يجدونه بأنفسهم من الخزي والعار.