نشأ سيدنا إبراهيم عليه السلام في أمة تعبد الأصنام وكان قومه جميعاً حتى أبوه يتخذون أصناماً آلهةً فلم يجارِ الناس على سيرهم ولم يوافق أباه على ضلاله بل إنه جعل ينظر ويتأمَّل وصار يُفكِّر ويتعمَّق في التفكير فنظر أول ما نظر إلى نفسه وهداه تفكيره المتواصل إلى أنَّ نطفةً من منيٍ يمنى لا يمكن لها بذاتها أن تتحوَّل بعد حين وتصبح مخلوقاً كريماً وإنساناً سوياً ذا سمع وبصر ونطق وشم ووعي وتفكير وله ماله من قلب ورئتين ومعدة وكليتين وكبد وأمعاء إلى غير ذلك من الأجهزة والأعضاء التي يحار في دقة تركيبها وبعظمة صنعها كل ناظر ومتأمل.
وهكذا استطاع سيدنا إبراهيم عليه السلام بتفكيره أن يتحرَّر من عقيدة الوثنية التي درج عليها أبوه وقومه من قبل وأن يُخالف البيئة والمجتمع الذي نشأ فيه وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إبْراهِيمُ لأَبيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إنِي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبينٍ}. وقد فصل سبحانه وتعالى النقاش الذي دار بينه سيدنا إبراهيم عليه السلام وأبيه في سورة مريم، فقال جلّ شأنه:
- ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ﴾: كيف صار، كيف أعطاه الله، كيف جعله بهذا المقام العالي، هل أعطاه الله جزافاً؟ لا، بالعمل: ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾: من أين جاءته هذه الصديقيّة؟ فكَّر ببدايته، بنهايته، استقام فأقبل على الله وصار يرى بنور الله، فصار صدِّيقاً يصدِّق بأوامر الله لما يراه فيها من الحق. وُلِدَ بين قوم كافرين، لكنه أخذ يفكِّر: ما أصلي؟ من يربِّيني؟ لم يعطه الله جزافاً بل بالعمل، إبراهيم عليه السلام ألقوا به في النار فما اعْترض بل رضي. وأمره الله أن يضع ولده في وادي مكة لا ماء فيه ولا شجر ففعل، كبر ولده، أمره الله أن يذبحه وكان قد عشقه فذهب لتنفيذ الأمر. الإيمان جرّه للصدق فصار له ظن بالله عظيم، وصبر على مراد الله. المؤمن حقاً ينهج نهجهم. فالمؤمن الحقيقي يصْدق ويحسن ظنه بالله ويرضى بما يسوقه له الله. ﴿صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾: كان إذا أُمر بأمر رآه.
- عندما فكَّر. ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾: أليس لك عقل؟! تعبد شيئاً لا يسمع ولا يبصر! وهكذا كل من لم يفكِّر مَثَلُه كمثله. الآن الناس تعبد بعضها بعضاً، ونحن نعبد بعضنا، هل أحد ينزل المطر؟!
- ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾: عرفت أن لا إلٓه إلّا الله، بإقبالي على ربي علَّمني وهداني. عندما فكَّر وأقبل رأى أسماء الله: رحيم، كريم، قدير، وأن الله تعالى خلق الخلق ليسيروا في طريق الحق الموصل للسعادة. ﴿فَاتَّبِعْنِي﴾: لأعلِّمك. ﴿أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾: لسعادتك، سيرك هذا هلاك عليك، أنت الآن في شقاء وغداً في شقاء.
إذن سيدنا إبراهيم عليه السلام:
1ـ ناقش أباه فيما يعبد.
2ـ بيَّن له علمه ونبوته.
3ـ نهاه عن اتباع الشيطان.
4ـ حذَّره وأنذره. فلما أصرّ وحارب ابنه تركه وقومه وبلادهم في سبيل الحق.
- ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾: لا تسمع كلامه فهو يحوّلك تحويلات ضارّة. ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَن عَصِيًّا﴾: عصى ربه الذي خلقه للسعادة، فلاتكن مثله، أراد رحمته، سعادته، فأبى أن يسجد لآدم عليه السلام.
- ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾: من رحمته إن شذذت يرسل لك بلاء كي ترجع، فمن لا يسلك طريق الحق في الدنيا تعبان. ﴿فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ﴾: إن لم تتب تكن معه في النار. ﴿وَلِيًّا﴾: موالياً، وإن لم تتبع الحق تكن غداً معه في العذاب.
- ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ﴾: أن تحوِّلني. ﴿عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ﴾: أقتلك. قرر مع قومه إعدام ابنه رجماً، إلا أنهم فكروا فيما بعد بطريقة جديدة وهي الحرق، وعندما لم ينجحوا بالحرق قال: ﴿وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾: على طول اتركني. لما رأى أبوه أنه لم يمت بالنار قال له: اهجرني ملياً، أي لا أريد أن أراك أبداً.
- ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾: مني. أسمى وأرقى الأخلاق أخلاق الأنبياء العظمى من الله. ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾: شاهد عليه السلام بنور النبوة العظيمة بذور خير بأبيه، ولرحمته عليه السلام أراد أن ينمِّيها فتوجه له ليحوِّله عن كفره، وهذا الاستغفار عن موعدة وعد الله بها سيدنا إبراهيم عليه السلام {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} سورة التوبة – الآية:114.
﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾: حاففني بفضله وكرمه "أقبل على الله فحفَّهُ بفضله"، يحفني بعنايته.
- ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ﴾: خرج من العراق، وهكذا فعل أهل الكهف. ﴿وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى﴾: قال عليه السلام عسى لأنه يعلم أن الله سبحانه أعطى الحرية والاختيار للإنسان، فإن شاء الإنسان الهداية هداه الله، وإن لم يشأ فله الخيار. ﴿أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾: محروماً من فضله. "نفس دعاء زكريا عليه السلام".
- ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: انظر الذي يفكِّر ويهتدي، كيف نعامله. ﴿وَهَبْنَا لَهُ﴾: جزاء فعله هذا في سبيلنا: ﴿إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾: يعقوب ابن لإسحاق. لم يذكر الله سبحانه وتعالى بهذه الآية سيدنا إسماعيل عليه السلام، والسبب لأن الله سبحانه على حسب صدق إبراهيم عليه السلام في الأزل كتب له إسماعيل أن يكون من نسله والذي يظهر منه رسول الله سيدنا محمد ﷺ، ولم يكن الله سبحانه قد كتب لإبراهيم عليه السلام إسحاق ويعقوب، لكن لما جاء سيدنا إبراهيم للدنيا وجاهد وضحى واجتهد كتب له إسحاق ويعقوب، فهذه الآية تقول أنه بهذه الدنيا يحدث تبديل وتغيير، فالاختيار للإنسان {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} سورة إبراهيم – الآية: (7)، وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} سورة الأنبياء – الآية:(72): غنيمة وزيادة فضل.
﴿وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾: جعلناهم قرّة عين له: قومه لم يؤمنوا به، لكن جعلنا على يد أولاده الخير، كله بصحيفته. هؤلاء فكَّروا وأقبلوا وصاروا أنبياء، وكل من لا يفكِّر فمصيره مصير الكافرين. لماذا أعطاه تعالى هذا العطاء؟ لصدقه، لتضحيته، وكل إنسان غداً يرى عمله فيُقبل على الله، الجنَّة بالأعمال؛ كلاًّ على حسب عمله.
رب العالمين: ينظر لصدق الإنسان ويسوق له من العمل ما يتكافأ مع صدقه ليظهر له عمله، فيصبح واثقاً من عمله العالي. وليظهر للخلق غداً عمله.
- ﴿وَوَهَبْنَا لَهُمْ﴾: في الدنيا أعطيناهم. ﴿مِنْ رَحْمَتِنَا﴾: إبراهيم وأولاده صاروا رحماء، وضعنا الرحمة بقلوبهم على الخلق، اشتقوا الرحمة من الله لذلك ولَّاهم الله سبحانه على الخلق، فالنور والتجلي الإلٓهي دائماً عليهم صلوات الله عليهم، وكل من أقبل على الله اشتق منه الرحمة. ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾: يعلون به عند الله وعند الخلق، وأجرينا الخير على أيديهم نتيجة صدقهم، فجرت على أيديهم الخيرات الأبدية دنيا وآخرة بما يرفع شأن الإنسان.