هؤلاء الناس الغافلون المطمئنّون في الحياة الدنيا ... لو أنّهم سعوا وبذلوا الجهد حتى وصلوا إلى الإيمان الحقيقي بالله تعالى، واستنارت قلوبهم بنوره سبحانه، فلا بد وأن يصلوا إلى المنزلة التي يحصل لهم بها "علم اليقين" فيرون حقّ الرؤيا بنوره سبحانه ما يحيط بالذين انغمسوا بالدنيا من شقاء، ويشاهدون ما هم فيه من الجحيم.
ويبيَّن لنا سبحانه وتعالى ذلك في سورة التكاثر، ويحذرنا من اللحاق بالدنيا وملذاتها المنقضية، وما ذلك منه إلا زيادة عطف وحنان، فقال جلّ شأنه:
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}:
وتفصيلاً لمعنى هاتين الآيتين الكريمتين نقول:
العلم: هو ما ثبت في النفس من الحقائق عن طريق الشهود النفسي والرؤية.
قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ..} سورة محمد: الآية (19). أي ليس يكفي أن تقرَّ بهذه الكلمة إقراراً بلسانك ولا أن تلفظها بناءً على ما سمعت من غيرك، بل لابد من أن تثبت هذه الحقيقة في قلبك من بعد أن عقلتها عقلاً، وحصل لك بها شهود ورؤية في نفسك.
واليقين: هو زوال الشك، وثبوت الأمر في النفس ثبوتاً غير ممكن الزوال.
وعلم اليقين: هو العلم الذي يشاهد به صاحبه حقائق الأمور بنور الله، فإذا بهذه الحقائق وقد رأتها النفس بذلك النور الإلۤهي أضحت ثابتة منتقشة على صفحات النفس لا تنمحي منها ولا تزول.
أما الجحيم: فهو النار الشديدة الحر والتأجج. وهو أيضاً أشد موضع من النار اشتعالاً، وأعظم مكان توقّداً. فإذا أنت أوقدت ناراً فجحيمها هو وسطها ومركز توقدها.
وقد أراد تعالى بهاتين الآيتين الكريمتين اللّتين نحن بصددهما أن يعرِّفنا أن الذين فُتنت أنفسهم بمحبة الدنيا، وألهاهم التكاثر فيها، هم في الحقيقة في دنياهم في نار وجحيم، لكنهم بسبب عمى بصائرهم وموت قلوبهم لا يرون ذلك الحال المنحط الذي انغمست أنفسهم فيه، ولا يشعرون بذلك الجحيم.
وإذا أردت أن يتوضّح لك حال هؤلاء، وأن تتعرف إلى ما صاروا إليه، فتصوَّر رجلاً جُنَّ جنونه وزال إدراكه ووعيه، وإلى جانب هذا الحال النفسي الذي نزل به، أصابه مرض جسمي ذهب بحسِّه وشعوره، فهل تظن أن هذا الإنسان المجنون المريض يشعر بخطر النار إذا أصابت أحد أطرافه، أم هل يأبه لها إذا رآها تأكل جسمه وتتلهَّب فيه، أقول:
وكذلك الأمر فيمن جُنَّ جنونه بمحبة الدنيا وألهاه التكاثر فيها، تراه ينغمس في الموبقات ويتردّى في المنكرات، ويلوِّث نفسه بأرجاس الدناءة والانحطاط، لكنه بسبب بعده عن ربه، وموت قلبه بالإعراض عن خالقه لا يرى ما هو فيه من دناءة، ولا يشعر بما هو فيه من انحطاط بل يزيَّنُ له سوء عمله فيراه حسناً، وهو لا يعلم ما هو فيه من جحيم الدنيا، وما تتلهَّب فيه نفسه من نار المذلَّة والعار، ولذا قال تعالى: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ).
إنها لجحيم الشهوات الدنيا والانحطاط، إنها لجحيم المذلّة والنار، إنها لجحيم الخزي والدناءة، إنها لجحيم الخطيئة والمعصية، لكن ذلك الإنسان الغافل لا يشعر ولا يرى شيئاً مما هو فيه البتّة.ولو أنه آمن بربه، واستنار بنور الله لأضحى ذا شعورٍ، ولرأى الحقائق.
وتوضيحاً لهذا المعنى الذي نحن بصدده وزيادة في البيان نقول:
للأشياء ظاهر وباطن، صورة وحقيقة، والإنسان المقبل على الله يرى بنور ربه الحقائق ويُعاينها. أما البعيد فيظل محبوساً أمام الصور لا يجاوزها كالسمكة تسبح في أعماق الماء، وقد عرضت لها قطعة من لحم في شَصٍّ، فهي لا تستطيع أن تخرق ببصرها ظاهر الاشياء، ولا تقوى على رؤية الشصّ المختبئ وراء قطعة اللحم فتلتهمها وهي لا تدري ما انطوت عليه من الهلاك.
وهكذا فالبعيد الغافل لا يرى من الأشياء إلا صورها تغريه وتستهويه وليس بمستطيع أن ينفذ ببصيرته إلى حقائقها، ولا أن يرى الجحيم المنطوية عليه، ولو أنه عَلِمَ عِلْمَ اليقين، وإن شئت فقل: لو أنه أقبل على خالقه حتى استنار قلبه بقبس من نور الله لكشف هذا النور الإلۤهي لنفسه حقائق الأشياء، وهنالك يرى الدنيا الدنية وما يحيط بشهواتها من الجحيم والنار فيعافها ويتركها ولا يعود يلهيه التكاثر فيها وما ذلك كلّه إلا طرف مما نفهمه من كلمة: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ).