يبيّن لنا سبحانه وتعالى في سورة الكهف أنّ أصحاب الكهف كانوا فتية... فكروا بالمنطق، سلكوا بالحوار، أيقنوا تثبَّتوا وصمَّموا وثبتوا، ويخاطب حبيبه ﷺ: أعجبت كيف أن أصحاب الكهف آمنوا دون مرشد ودليل وأن الناس بزمنك بالرغم من وجودك لا يؤمنون؟!
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا}:
وآية أصحاب الكهف تعني أنهم لا يزالون فيه. {وَالرَّقِيمِ}: العدد؟! {كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا}: أنت تدلّ قومك هذه الدلالة العالية ولا يؤمنون بك، وأولئك دون مرشد ومبيِّن آمنوا! فهل عجبت من ذلك؟
كانوا فتية "أبناء وزراء عند ملك"، تركوا الدنيا! شاب يترك الدنيا! هل هذا ممكن؟ هذا شيء عجيب، حيث أنهم شباب فكروا وبسرعة اهتدوا، فبدل أن يلتفت الناس إلى قصتهم والمغزى منها والشيء العظيم الذي رفعهم وأعلى شأنهم وهو إيمانهم بربهم، راحوا إلى الاختلاف بأعدادهم وأرقامهم وأسمائهم، فانشغلوا بتلك القشور والسفاسف والأرقام وأضاعوا الحقيقة في طيَّات الظنون والاحتمالات، ولم يلتفت أحد إلى الغاية العظيمة من ذكرهم في القرآن.
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ...}:
"صحبة الغار ولا صحبة الجار الكافر". العزلة عن المجتمع اليوم خير، فالزم بيتك وعليك بخاصة نفسك، حافظ على نفسك ولا تختلط أنت ولا أهل بيتك، فالبعد اليوم راحة، غداً العكس، فالمشرب آسن والجو مسموم، تراجعك عن المنكرات عند الله أعظم من فتوح العالم. أصحاب الكهف كانوا في دنيا وعز وحياة عالية، لمَّا شاهدوا واستدلّوا تركوا الكل. {فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً}: نزِّل لنا من رحمتك، «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء» ، ظنهم الحسن بربهم نجاهم وسما بهم، آمنوا برحمة الله لمَّا شاهدوا ما عمّهم به من فضله وحنانه ورحمته وتسييره الخيّر في خضم تفكيرهم بآثار رحمته سبحانه وتعالى على الكون وعلى أنفسهم. {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}: قومنا كلهم كفّار: أرشدنا لطريق للخلاص منهم. هذا مفعول الإيمان الحق في النفوس.
{فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}:
ناموا سنين عدّة ثم جاؤوا بعد عصر سيدنا موسى وعيسى عليهما السلام، ولكن ما استفاد أهل ذلك الزمان منهم.
{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} !
ولكن هل إلقاؤنا النوم عليهم ليُعلم عدد السنين؟! هل لهذا فعلنا ما فعلنا؟ أنمناهم لكي يقال أنهم لبثوا عدداً من السنين!
ما بعثناهم لنعلم المدَّة. ما لم يفكِّر الإنسان فلن يعرف المراد، وكذلك الآن أناس يذكرون قصتهم ولكن لا يفقهون المراد. فرض الله تعالى علينا الصوم والصلاة والحج، فما المراد من الصلاة ومن الصوم ومن الحج؟
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}:
فلِمَ يقصُّ تعالى عليه قصّتهم؟!
ذلك لتجري مجرى العمل فتأخذ مجراها وتسلك في قلوبنا وأفكارنا وتكون باعثاً لنا لنسلك مسلكهم فنسمو ونترفع عن مستوى الهمل، تلك معرفة بلا أجر وهي الآن في حيز العمل والأجر لنا.
فهي دروس وعبر ومسلك قويم لبلوغ مرقى عظيم. وأي عظيم هو، هَجْرٌ للكفر وأهله وفوز بالله العظيم ثم نصر على أئمة الكفر والطغيان لردِّهم إلى سبيل إنسانيتهم وردعهم عن طرق الغي إلى سبل السلام من لدن الله الرحيم.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ}: بما استحقت نفوس أصحابك الكرام البررة، إذ سيسيرون مسراهم، ويلقون بالعرض الزائل جانباً، بالدنيا ومفاتنها والعشيرة ومذاهبها، ولن يقف بطريقهم شيء، بل سيتخذون الله ورسوله صاحباً.
{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ}: فتية في عمـر الورود والزهور، في مقتبل سن الرشد، في فورة الشباب وعظيم اندفاعه، اندفعوا للحق وللبحث عنه ووجَّهوا طاقاتهم العظمى للغرض الأسمى، أعمَلوا دواليب الفكر بدل الاندفاع الطائش نحو الهوى الأعمى.
{فِتْيَةٌ}: حواريّون سلكوا سبل المناقشة والشورى والاستفتاء، وأعمَلوا أفكارهم وكدُّوا أذهانهم بغية الحق اليقين بعد إيمانهم الذاتي واستدلالهم من ثنايا الكون العظيم وانغمارهم بنور ربهم وخوضهم وسبحهم في ثنايا الوجود، لبلوغ الموجد القدير الكبير، اعترافاً وعرفاناً بجميله عليهم لإنعاماته اللانهائية، إذ هو سبحانه خالقهم ومبدعهم، واهبهم ومانحهم نعمة الحياة والوجود والتربية والتسيير الخيّر، فكيف لا يفتِّشون عنه سبحانه ويثابرون؟! علِمَ سبحانه صدقهم بطلبه فتفضَّل عليهم بمقابلته والاتصال به فأسعدهم بلقاه.
{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}: فتيان آمنوا بربهم وزدناهم هدى، عرف المربي واهتدى فآثر ذلك على الدنيا بما فيها. الإيمان بالله سعادة لا تعدلها سعادة، لا طريق للإنسان إلاَّ إذا آمن بالمربي. الدنيا رغم ما فيها من زينة متى آمن الإنسان بالله رماها من قلبه، لقد ألقينا عليهم النوم وعرَّفنا الناس بهم ليعلموا أن أولئك الفتية عندما آمنوا بربهم انتقلوا لمعرفة لا إلۤه إلاَّ الله.
{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}: بإيمانهم الفكري وإقبالهم بعده، وسيأتي يوم يستيقظون فيه من نومهم ويعودون إلى الحياة العملية ليعملوا المعروف والإحسان. ذلك أنهم لم يكن لهم يومها عمل، وذلك اليوم التالي هو يوم ظهور السيد المسيح عليه السلام لتشابه قضيتهما وإتمام الفتوحات للعالم كله.