لبيان طريق تطهير النفس علينا أن نبيِّن كيفية تولد الغل والحسد وسائر العلل المعنوية في النفس، كما أنه من الواجب علينا أن نبيّن كيفية التخلُّص من هذه العلل؛ والوصول إلى تطهير النفس منها وتحليتها بالفضائل والكمالات الإنسانية فنقول:
خلق الله تعالى الإنسان وأخرجه إلى هذه الدنيا نقيّاً طاهر القلب، نفسه كالمرآة الصافية أو الصفحة البيضاء التي لم ينقش عليها شيء وإلى ذلك يشير الحديث في قوله ﷺ: (كل مولود يولد على الفطرة) رواه البخاري.
كما تشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا..} سورة الروم، الآية 30.
وما يزال الإنسان نقي النفس حتى يبلغ الحلم ويصل إلى سن الرشد وفي هذه المرحلة يصبح أمام طريقين اثنين: فإما أن ينهج طريق الإيمان، وإما أن ينهج طريق الكفر والإعراض. فإن هو آمن بالله حق الإيمان وأقبل بالصلاة بكل قلبه عليه فهنالك تشتق نفسه من الله تعالى منبع الكمال وموئل الفضائل كلها وينتقش فيها الكمال، فيغدو هذا الإنسان إنساناً كاملاً فاضلاً متحلِّياً بالكمالات الإنسانية، مشحون القلب بالرحمة والرأفة والرضاء، عفيفاً طاهراً صادقاً أميناً سخياً كريماً شجاعاً جريئاً عادلاً محسناً مشغوفاً بعمل الخير عطوفاً على الخلق يتمنى الخير لكلِّ إنسان.
كل هذه الكمالات وسائر الكمالات الإنسانية تنقش في نفس هذا المؤمن بالصلاة بصورة لاشعورية وتصطبغ بها بصبغة من الله، قال تعالى: {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً..} سورة البقرة، الآية 138.
وهكذا وبنسبة هذا الإقبال تزداد هذه الانطباعات بالفضائل والكمال ولذا كان رسول الله ﷺ أعظم الناس رحمةً وأشدهم على الخلق إشفاقاً ورحمة وعطفاً وأكبرهم من الفضائل حظاً قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ..} سورة آل عمران، الآية 159، {وَاصْبِر وَمَا صَبْرُكَ إلاَّ بِاللهِ..} سورة النحل، الآية 127.
لهذا نال رسول الله الرحمة وسائر الكمالات.. وتلك هي الطريق الوحيدة إلى نيل الكمال التي سلكها الصحابة الكرام، وكان حظّهم من هذا الكمال مُتناسباً مع إقبالهم فكان منهم السابق والأسبق والمجلّي في هذا الميدان. وكذلك كل مؤمن بحسب إقباله بصلاته يتبع ذلك الركب الأول الأمثل فالأمثل. أما الذي يصل إلى سن الرشد والتمييز ولا يستعمل تلك الجوهرة الثمينة التي زيّنه الله بها ورفع شأنه على الحيوان لا بل على سائر ما خلق، هذا الإنسان الذي لم يُعمل تفكيره في الوصول إلى الإيمان بالله فلا شك أنه يظلُ محروماً من الإقبال على الله، وينشأ عن الإعراض وعدم الإقبال عدم التقدير لفضل الله وإحسانه ذلك المعبَّر عنه بكلمة (الكفر).
وبسبب الكفر والإعراض عن الله تتولَّد في النفس العلل المعنوية من غلّ وحقد وحسد وقسوة قلب وحرمان من الرحمة وحب للتعدّي والظلم إلى غير ذلك من العلل والرذائل والصفات المنحطة الذميمة، وهنالك يدْلُك الشيطان إلى النفس التي امتلأت بهذه العلل وأضحت مشحونة بالخبث يزيِّن لها سوء أعمالها فتظنُّها حسنة. وتلك العلل المتولِّدة في هذه النفس المعرضة هي حظ الشيطان من الإنسان.
ومن أحسن الأمثلة في هذا الموضوع مثل:
غرفتين إحداهما معرَّضة لنور الشمس والأخرى مظلمة محرومة منها. فلا شك أن الأولى التي تتعرَّض لنور الشمس تصبح طاهرة نقية، ولا شك أن الثانية بحرمانها من النور تنبت فيها الجراثيم والعُفونات وتغدو خبيثة الرائحة ملوثة الهواء. ذلك هو مثل الأنفس في إقبالها على الله وبُعدها وإعراضها عنه فالمقبلة عليه تعالى تصبح طاهرة نقية تتولَّد فيها الفضائل وتنطبع فيها الكمالات. والمعرضة عنه تعالى يتولد فيها الخبث وتنشأ فيها العلل المعنوية المنحطة، غير أن هذه النفس المعرضة التي وهبها الله تعالى من الاستعداد ما تستطيع به أن تتراجع عن غيِّها لا يأساً من شفائها مما هي مصابة به فالأمر موكول إلى هذا الإنسان وحده. قال تعالى: {..إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ..} سورة الرعد، الآية 11.
فإن رجع الإنسان إلى نفسه بالتفكير واهتدى من وراء تفكيره إلى خالقه فأناب إليه وأقبل عليه تعالى بكلِّيته، فهنالك يمسح النور الإلۤهي صفحات النفس فيعيد إليها طهارتها ونقاءها ويرجع بها إلى فطرتها قال تعالى: {فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلقِ اللهِ ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنيبينَ إليْهِ وَاتَّقُوهُ وَأقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ} سورة الروم، الآيات 30-31.
وهكذا فالمسألة مسألة إقبال وإدبار. فمن فكَّر وأناب وأقبل على الله تعالى تحلَّت نفسه بالفضائل وطهرت من العلل وامتلأت بالكمال، ومن استكبر وأعرض انحطَّت نفسه وتدنَّت وتلوثت بالعلل المعنوية والأدران.