بعد أن عرض لنا سبحانه وتعالى في مطلع سورة الشمس عدداً من الآيات الدالة على عظمته وجليل نعمته، وبعد أن بيَّن لنا أنه عرَّف النفس بما فيه خروجها عن الطريق السوي وبما فيه صلاح أمرها وتقواها، بعد ذلك كله ساق لنا تعالى الآية التالية ليعرِّفنا أن الظفر بالخير إنما يكون بتزكية النفس وتطهيرها فقال تعالى:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}:
والفلاح: هو أن يظفر الإنسان بالخير من بعد أن سعى له سعيه، وأن يصل إلى السعادة من بعد أن قدَّم لها الأعمال الطيِّبة. يُقال: أفلح القائد في ردِّ العدوِّ. وأفلح العمال في إزاحة الصخرة... وأفلح المزارع في زراعته. والتزكية: تطهير النفس من السوء، وتنقيتها من الشوائب. وتزكية النفس إنما تكون بالصلاة الصحيحة، أي: بصلة النفس بالله وإقبالها عليه.
فإذا أقبل الإنسان بنفسه على ربِّه فهنالك يسري النور الإلهي إلى النفس ويتخلَّل هذا النور كل ذرَّة من ذراتها وبهذا النور ينمحي الخبث من القلب وتنقرض الشهوات الدنيئة وتتطهَّر النفس من الرذيلة فلا يبقى فيها شيء من المعاصي ولا يعود الإنسان يطلب إلاَّ الأشياء العالية، ولا يميل إلاَّ إلى الفضيلة.
فمن أقبل على الله بنفسه منذ حداثة سنِّه وُقيتْ نفسه وعُصمت فلم يتولَّد فيها خبث ولا شر ونشأ نشأة طاهرة لم يمازجها سوء ولا معصية، ومن حصلت له غفلة وميل عن ربه ثم عاد إلى التوبة والإقبال على الله عادت له طهارة نفسه ورجع إلى فطرته الطيبة.
قال تعالى:
(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ). سورة الأعراف: الآية (29).
ومثل النفس والحالة هذه كمثل غرفة بَنَيْتَها وجعلت لها نوافذ وأبواباً تسمح بدخول النور، وتأذن بوصول أشعة الشمس، فإن أنت عرَّضت الغرفة لذلك النور ظلَّت طاهرة من العفونة، نقية من الجراثيم، وإن أنت حرمتها من النور وأشعة الشمس تولَّدت فيها الجراثيم والعفونة، فإذا عدتَ لتعريضها للشمس أعدت لها طهارتها وتزكيتها، وهكذا فما دام الإنسان مقبلاً على ربِّه ظلَّ طاهراً نقياً، وكلما ازداد إقبالاً ازداد طهارة وزكاة.
وإذاً فما خلق الله إنساناً طاهراً وآخر شريراً، بل فطر الجميع فطرة واحدة طيبة، غير أن الإقبال والإدبار على الله ميَّز أناساً عن أناس. فمن كان أكثر إقبالاً كان أكثر طهارة، ومن كان أتقى كان أنقى، ومن زكّى نفسه فقد أفلح، أي فقد فاز بالسعادة وعادت أعماله جميعها عليه بالخير، فهو لا يقوم إلا بالأعمال الشريفة الفاضلة، وهو لا يعمل إلاَّ صالحاً ولا يرى في حياته إلا خيّراً.
{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}:
والخيبة: هي عكس الفلاح وهي الخذلان وعدم الوصول إلى المطلوب. ودسَّى: عكس زكّى.
فالذي يُعرض عن الله يتولَّد الخبث في نفسه وتحدِّثه نفسه بالشرور والرذيلة، فإذا هو لم يقبل على الله بل دسَّ نفسه، أي: غمسها في الرذيلة وأوقعها في الأفعال المنحطة فعاقبتُه الخيبة وعدم الظفر بالخير، فهو يحسب أنَّ في غشّه ربحاً، فإذا الغش ينفِّر الناس منه ويعود عليه بالخسارة، وهو يحسب أنَّ في الزنا سعادة، فإذا بالزنا يعود عليه بالأمراض الوبيئة والنتائج المخزية ويعقب له الفقر والفاقة، وهكذا تجد من يغمس نفسه في الرذيلة ولا يزكِّيها بالإقبال على الله، ينتقل من همّ إلى همّ ومن تعاسة إلى تعاسة، وليس له في الدنيا إلا الشقاء ولعذاب الآخرة أشق والسعادة كل السعادة للمقبل على ربه والتعاسة والشقاء للمعرض.