بسم الله الرحمن الرحيم.
يقول سبحانه وتعالى في سورة الماعون: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}. وتفصيلاً لمعنى هذه الآية الكريمة نقول:
{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}
الويل: هو حلول الشقاء والهلاك، تقول: ويلٌ لك من الأسد إذا وقعت بين يديه، وويلٌ لك من هذا الملك إذا غضب عليك، وويلٌ لك من النار إذا وقعت بها، وويلٌ لك من القبر ووحشته إذا أنت وُضِعت فيه ولم تكن لك أعمال حسنة تسترك وترضيك، وويلٌ لك من خزي يوم القيامة إذا نُودي بك للحساب وكانت أعمالك منحطة وجميع الخلائق يومئذٍ ينظرون إليك، وويلٌ لك من عذاب النار وحريقها وهي تنضج الجلود وتصهر الأمعاء، وويلٌ... وويلٌ...، وويلٌ كما نفهم معناه الشقاء العظيم والألم الكبير نفسياً كان أم جسدياً، مادّياً كان أو معنوياً. وهي مشتقة لغوياً من كلمتين، كلمة وي: أي أتعجَّب، وولَّى: أي كم ولَّى عنه من الخير الكبير والذي بخسارته يحل بساحته الهلاك والشقاء.
أما كلمة (المصلِّين): فهي جمع مُصلِّ، والمصلِّ بحسب الاشتقاق اللغوي اسم فاعل مأخوذة من الصلاة، وهي: الصلة والارتباط النفسي، تقول: لك يا رب صلاتي، أي: لا صلة لنفسي إلاَّ بك ولا ارتباط لها إلا بجنابك العالي الرفيع. وهكذا فالمصلِّي هو كلّ مخلوق له صلة نفسية بخالقه.
على أن هذه الكلمة هنا لا تعني بالمصلِّي من يؤدِّي أشكال الصلاة بمعناها الاصطلاحي، وأعمالها من ركوع وسجود وقيام وقعود وقراءة، بل إنما تعني ذلك الإرتباط وتلك الصلة بين المخلوق وخالقه، إنها صلة إمداد وتربية، إنها صلة ينبني عليها قيام الوجود والحياة، إنها تعني ذلك الاستمداد الدائم من الله تعالى الذي كل من في السموات والأرض مفتقر له ومحتاج إليه.
وزيادة في تفصيل هذا المعنى نقول:
ما من مخلوق في هذا الكون إلاَّ وهو قانت لله يستمد منه تعالى بلا انقطاع الوجود والقيام والحياة.
كل ما في الكون قائم بنوره تعالى، سائر بأمره، مفتقر إلى دوام تجلِّيه تعالى وإمداده.
فالشمس تستمد منه تعالى توقُّدها وحرارتها، وعلى إمداده سبحانه يتوقَّف بقاؤها واشتعالها، وبه ضياؤها ومنه نورها ولو أن إمداده تعالى انقطع عن الشمس أقل من طرفة عين، لانطفأت شعلتها بل لانمحت وزالت ولم يبق لها أثر ووجود، فهي أبداً مفتقرة إلى الله وهي دوماً على صلة به، وهي دوماً في صلاة، وكذلك النجوم والكواكب والسماء بما فيها، والأرض وما عليها، وما من شيء مهما يكن صغيراً دقيقاً حتى الذرَّة التي لا تُدرك العين لها وجوداً.
أقول: ما من شيء إلاَّ وله صلة وصلاة وسبح وتسبيح، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله الكريم: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ..} سورة الصف: الآية (1). وقوله تعالى مشيراً إلى دوام هذا التسبيح: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} سورة التغابن: الآية (1).
ونوجز القول في تأويل معنى قوله تعالى:
{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}:
جاء التعبير هنا عن المصلِّين بصيغة الجمع بياناً لكون ذلك يتناول سائر الخلق، فالخلق جميعاً قائمون بإمداد الله المتواصل، وهذا ما تُعبِّر عنه وتفيده كلمة (المصلِّين)، فهم أبداً على اتصال دائم بربِّهم، سواء شعروا بذلك، أم لم يشعروا، إذ لا قيام ولاحياة لهم إلاَّ باستدامة صلاتهم به تعالى، سواءٌ في ذلك أجسادهم ونفوسهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ..} سورة الحج: الآية (18).
ومن هذا يتبيَّن لنا أنه لا فرق بين مخلوق ومخلوق، ولا بين كافر ومؤمن في هذه الصلة، ولكن الاختلاف والتباين إنما يكون في الشعور بهذه الصلة وتذوُّقها ومشاهدتها، أو السهو عنها.
فالمؤمن يمتاز عن الكافر بكونه يشعر بصلته بربه ويتذوقها ويشاهد خيراتها بنور ربّه، والكافر مع وجود الصلة واستمرارها من طرف ربّه عليه تراه من طرفِهِ غافلاً وعنها ساهياً.
ومثل الكافر في سهوه عن ربِّه، كمثل الإنسان مع الهواء يستنشقه ولا ينفكُّ عن الاستفادة منه، لكنك تراه ساهياً مشغولاً بمشاغل الحياة، فإذا انتبه الإنسان لهذه الصلة وشعر بها، فقد فاز وصار من أهل الخير لأن نفسه تتحول وجهتها لله فيطلب دوام السقيا ويرفل بالخيرات دنياه وآخرته. أما إذا سَهَى عنها انحطَّ وباء بالخسران، وهؤلاء هم: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}.