بسم الله الرحمن الرحيم.
يريد الله تعالى في سورة المطفّفين أن يحذِّر الإنسان من الإعراض عنه سبحانه وما يولِّده في النفس من انحراف عن الحقّ وميل للعدوان فقال جلّ شأنه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} سورة المطففين، الآيات (1-6)
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}:
والويل: هو حلول الشر ونزول الهلاك، وتُقال هذه الكلمة لمن قام بعمل أبعدَ به عن نفسه خيراً عظيماً، وجرّ لها هلكة وشقاء. فالله تعالى إنما أعطى الإنسان (الكوثر) أي: أنه أعدَّ له خيراً لا يتناهى ولكن المعرض عن ربه إنما يجعل ذلك الخير المعدّ له يولِّي عنه.
إن كلمة (وَيْلٌ) مأخوذة من ولَّى أي: ولَّى عن أولئك المطففين بعملهم السيِّء ما كان أعدَّه الله تعالى لهم من الخير العظيم. وإن كلمة (وَيْلٌ) مأخوذة أيضاً من (ويْ)، وهي كلمة تعجُّب أي: ما أعجب أمر هؤلاء وما أجهلهم فكم حرموا أنفسهم من خيرات مهيَّأةٍ لهم!.
والمطففين: جمع مطفِّف، والمطفِّف: هو الذي يسعى دوماً في جرِّ المغنم لنفسه سواءٌ كان بائعاً أم مشترياً أو دائناً أو مديناً، معلِّماً أو أجيراً، فليس يهمّه في هذه الدنيا إلا أن يكون رابحاً.
وقد أراد تعالى أن يفصّل لنا ذلك المعنى فقال تعالى:
{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}:
واكتال: أي: طلب من غيره أن يكيل له، وهي مأخوذة من فعل كالَ، كما أن ابتاع مأخوذة من فعل باع. و (عَلَى النَّاسِ): إنما تُفيد الاستعلاء والسيطرة. وكلمة (يَسْتَوْفُونَ): أي يأخذون حقهم كاملاً وافياً. ويكون ما نفهمه من هذه الآية:
أن المطفِّف رجل إذا كانت له السيطرة والاستعلاء على غيره استوفى منه حقه على الوجه الأتم. ثم بيَّن لنا تعالى صفة ثانية من صفات المطفِّفين فقال تعالى:
{وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}:
وكالوا: أي إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم فإنهم يُخسرون أي: يظلمونهم، ولا يؤدُّون لهم حقّهم تامّاً كاملاً. وإذا أردت التوسُّع في معنى الآية فنقول:
التطفيف يتناول سائر نواحي البيع مما فيه غمط الناس وتخسيرهم، فالذي ينقص المكيال ولا يعطيه حقه مطفِّف، والذي ينقص الميزان مطفِّف، والذي يبيع البضاعة الرديئة بسعر البضاعة الجيدة مطفِّف، والذي يأخذ من الثمن قدراً زائداً عن السعر الحقيقي الذي يقتضي أن يأخذه مطفِّف. وبصورة عامة كل امرئ يسعى في جرِّ المغنم لنفسه غامطاً حقوق غيره إنما هو مطفِّف.
والتطفيف يدخل مع الإنسان في البيع والشراء، وفي الشركة والقسمة والديْن، وفي معاملة الزوجة والجيران وفي كل حال من الأحوال، حتى في معاملة الحيوان، فالذي يحمِّل دابة ويستخدمها في حاجته ثم لا يؤتيها حقها من الطعام والشراب إنما هو أيضاً مطفِّف.
وهكذا كل إنسان لا يسير في معاملته بالعدل ولا يعامل الناس بمثل ما يحب أن يعاملوه، بل يستوفي حقه منهم كاملاً فإذا كان عليه الحق لم يؤدِّه لهم على الوجه الأكمل يُسمّى مطفِّفاً.
ثم إن الله تعالى أراد أن يذكِّر المطففين بذلك اليوم العظيم الذي سيقفون فيه بين يديه فقال تعالى:
{أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}:
ويظن: مأخوذة من الظن: وهو الاعتقاد الراجح. ومنه قوله تعالى: (... وَظَنُّواْ أَن لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ). سورة التوبة: الآية (118). أي: ثبت ذلك لديهم وتقرر في نفوسهم. ومبعوثون: مأخوذة من البعث وهو الإيقاظ بعد رقدة. فبعث الناس بعد موتهم إنما هو إعادتهم إلى الحياة من بعد رقدتهم في قبورهم. واليوم العظيم: هو يوم القيامة فهو عظيم لما يتبعه من الخير الواسع الأبدي الذي لا يتناهى للمحسنين. وهو أيضاً عظيم لما يتبعه من الشقاء والعذاب الأليم للمسيئين. وأما كلمة (ألاَ): فهي هنا كلمة تحضيض، والتحضيض هو الحث على القيام بالفعل، كأن تقول للمسرف على نفسه ألا تتوب وقد بلغت المشيب.
ويكون ما نفهمه من هذه الآية الكريمة: {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ}:
أي: ألا يجب عليهم أن يفكِّروا وينظروا أن الذي خلق السموات والأرض وأوجدهما على هذا النظام البديع هل يمكن أن يترك الإنسان سدىً!.
إن العدالة الإلۤهية تقضي أن لا يُعامل المحسن كالمسيء، وأنه لا بدّ من يوم تقف فيه الخلائق جميعاً للسؤال بين يدي رب العالمين..
قال تعالى:
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}:
والربّ: هو المربي الممدّ بالحياة. والعالمين: جمع عالم وهي تشمل سائر أنواع المخلوقات.
ويكون ما نفهمه من هذه الآية: أي: أن الممد بالحياة لهذه العوالم كلها هذا المربي الذي لا يعجزه شيء سيدعو الناس للوقوف بين يديه وأنه سائلهم عن أعمالهم يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء.