بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
يقول تبارك وتعالى في سورة الرحمن:
{ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (سورة الرحمن، الآيات 7 - 9)
* ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا﴾: هذه السماء بأجرامها العظيمة من شمس وقمر وكواكب ونجوم، من رفعها؟ من جعلها فوقنا؟ هل ثمّة حجر أو حُصَيَّة تقف في الهواء دون حامل لها؟! فمن يمسك السماء وما فيها، بل ويسيّرها نحو النتاج الخيِّر لهذا الإنسان المكرَّم؟ يد من تسيطر عليها وترفعها؟
رفعها من أجلك، فهو سبحانه ليس بحاجة لها ولكن جعلها بهذا الترتيب والوسعة لتلفت نظرك لخالقها وموجدها جلَّ وعلا.
رفعها ووضع لك الفكر لتفكِّر بآياتها وبعظمتها، إن فكَّرت آمنت كما آمن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ورأيت عظمة الله وسمَتْ نفسك بالله وعَلَتْ. إذ بالإيمان كمال النفوس وسموّها.
﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾: الفكر الذي تميّز به الإنسان عن سائر المخلوقات.
فلقد وضع تعالى في الإنسان هذا الفكر ليسلك طريق الإيمان فيتعرّف على خالقه وموجده من خلال خلقه وتمام صنعه، يزن الحقائق بفكره ويميّز بين صنع الخالق وصنع المخلوق عندها يرى أن لا عظمة إلا عظمة الله ولا حول ولا قوة إلا به تعالى ولا جمال إلا من لدنه ولا حياة ولا قيام إلا به، وكل ما عداه باطل، فهو معدن الخير وأصل كل فضيلة وكمال، أما إن لم يتعرَّف الإنسان على خالقه وموجده فيبقى في منازل البهيمية والحيوانية يرتع.
﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾: التشريع، الحق بين جميع الخلق.
* ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾: فلا تطغَ في تفكيرك، ولا تستعمله بالطغيان، وضع لك الفكر لتصبح إنساناً تأنس بك المخلوقات كلّها. ولكن استعمال هذا الفكر للاستعلاء على الغير والتسابق بالمهالك يجعل المرء يخرج من صنف الإنسان إلى صنف الشيطان المؤذي المتعدّي، فيخسر حياته ويخسر الجنان.
فالله تعالى لم يضع الميزان من أجل أن تطغوا على بعضكم وتخترعوا المخترعات الضارة المدمرة، فالذين اخترعوا هذا الضرر والدمار طغوا بتفكيرهم على بعضهم واستعملوه فيما لم يخلق من أجله، فأحدثوا الخراب والحروب ونشروا الفساد بين العباد فأشقوا أنفسهم وغيرهم بما اخترعوه حتى أصبح حال الناس إلى ما هم عليه الآن من الانحطاط؛ فواحش وربا ورشوة وسرقة وقسوة وطغيان وحروب.
* ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ﴾: لا تطغَ، بل فكِّر بكل شيء ضمن الحق والخير، كل شيء له حق فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقّه.
فليفكِّر الإنسان بصنع الإلۤه عندها يستعظمه وتتّجه نفسه إليه تعالى فيصبح من أهل الإيمان، وليقارن بين كمالات الرسول ﷺ وأعماله وما جاء به من بيان عالٍ وحق، وبين ما تقوم به البشرية، عندها يسير على نور بالحق الراجح ويسلك الطريق بقوة ليحظى بالمكرمات، فقد جاء للدنيا وربح منها جنات، فهو من الناجحين المهتدين حيث كسب عمره الثمين وحقّق المراد الخيِّر من وجوده.
﴿وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾: ولا تهمل تفكيرك كالحيوان. فتضيّع عليك الشيء الثمين الذي أعده الله لك، لا تطغَ فيه باستعماله للدنيا ومتاعها، ولا تخسره بعدم استخدامه للوصول إلى الله والتفكير بآلائه. فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل، فتهمل استعمال هذا الميزان حتى يصدأ، حذار أن تتّصف بوصف الحيوان فتخسر الدنيا والآخرة، وتكن أشقى الناس.