بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
يقول تبارك وتعالى في سورة يونس:
{ الٓر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } (سورة يونس، الآيات 1 - 2)
* {الٓر}: وضع الله سبحانه وتعالى هذه الرموز ليستحث تفكير الإنسان، فإن لم يفكِّر هذا الإنسان فلن يستفيد أبداً. المدار أن يشغِّل الإنسان فكره. هذا وقد خاطب سبحانه رسوله ب: {ا}: أي: يا أحمد الخلق. {ل}: يا لطيفاً، بلحظة يعرج ﷺ بمن معه إلى الله. {ر}: يا رحيماً بخلقي. {تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}: لمَّا سعيت أنت واجتهدت فصرت بهذه المنزلة أنزلنا عليك هذه الآيات. لكن مع الأسف لا يوجد الآن من يفكِّر في الآيات وحكمتها، فإن لم يفكِّر الإنسان بها فأنَّى له أن يستعظم القرآن؟
* {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ}: هذا عجيب؟ شخصان أحدهما درسَ واجتهد فارتقى وصار بمرتبة عالية، والآخر ضيَّع فصار في الحضيض، كذلك بالنسبة لمعرفة الله. فلولا أن رسول الله ﷺ اجتهد وسعى لما نال. لو سلكوا الطريق التي سلكتها لنالوا الخيرات، فهل يعجبون منك؟
أنت اجتهدت وهم ضيَّعوا، أنت فكَّرت، هم التهوا بالدنيا. إذن: الأمور بالسعي والجد، (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) سورة النجم، الآية 39
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً}: لا يعجب إنسان فكَّر وقرأه وفهم الحكمة منه، أمَّا إن لم يفكِّر به فهذا يعجب، الملائكة عندما عرفوا علم سيدنا آدم عليه السلام استعظموه، فسجدوا وهاموا خاضعين لعلمه، أمَّا من لا يفكِّر فلا يقدِّر.
هذا القرآن لا يمكن أن يفهمه إلَّا الطاهر، والطهارة بالصلاة التي تتم بالاستقامة والثقة، والثقة والاستقامة تتمَّان بعد الإيمان بلا إلٓه إلا الله، والتفكُّر بالآيات الكونية، والتفكير هذا لا ينجب ويُنتج إلَّا بعد ترك الدنيا من القلب، ولا يحصل هذا إلَّا بالتفكير بالموت، والتيقُّن من فراق الدنيا. فهذا الكتاب الآن لا أحد يعرف الحكمة منه، وذلك بسبب عدم تفكيرهم.
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُواْ}: وهم: كل من اجتهد ففكَّر ودقَّق فعقل. {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}: بتفكيره بالموت صدق في معرفة المربِّي. بصدقه عند الرب جلَّ وعلا أخذ يتقدم درجةً بعد درجة. فلن يمشي بطريق الحق ما لم يعقل هذا الإنسان ويؤمن. الإنسان المؤمن حقّاً يرى الله معه، يده لا تتحرك إلَّا بالحق، وعينه لا تطرف إلَّا بالحق، ورجله لا تسير إلَّا بالحق.
{قَالَ الْكَافِرُونَ}: الناكرون عظمة الله، الملتهون بالدنيا والزخارف. {إِنَّ هذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ}: قالوا سحر، حيث أنهم ما عرفوا الحق.
المؤمن الذي عرف الحق يقدِّر أهل الحق، ويلحق بهم. أما الكافر، حيث أنه ما عرف فهو لا يقدِّر. كذلك الآن البعيد عن الله لا يرى شيئاً في القرآن.
فهذا رسول الله ﷺ الكامل اللطيف، والذي لا شائبة عليه، مع ذلك فالكافرون الذين استهووا الدنيا قالوا: هذا ساحر. وكذلك الآن، فمن لا يفكِّر مثله كمثلهم، تراه يقول: القرآن لا يتوافق اليوم مع المدنية الحديثة.
* {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ}: واحد، هو المربي لك، حياتك به، قيامك به. {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}: لأجلك، لتربيتك، في ستة أيام: أربعة فصول صيف، خريف، شتاء، ربيع، وليل ونهار، من الذي رتَّب هذا الترتيب؟ ما هذه الكرة الأرضية؟ ما أعظم من يدوِّرها؟ لن يصل لشيء من لا يفكِّر، أُنزل القرآن لتفهم معانيه، وتسير به. {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: بعد أن رتَّب الله تعالى الأرض والكون على هذا النظام تجلَّى عليه فسار، وأنت جزء من الكون، فهل يا ترى الذي خلق الكون، ويدير هذه الكرة الأرضية التي أنت عليها، تاركك لنفسك؟
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}: كله. {مَا مِن شَفِيعٍ}: لا أصبع يقارن أصبعاً، ولا شيء لشيء. {إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}: فلا حركة إلَّا به تعالى، يدك لا تتحرك، عينك لا تطرف ولا تنظر إلَّا به، قلبك لا ينبض إلَّا به، كل الكون سائر به.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ}: هذا هو. {فَاعْبُدُوهُ}: اسمع دلالته التي يتلوها عليك بواسطة رسول الله ﷺ. {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}: من هذا الكون شيئاً؟ من هو الخالق، المربِّي، المسيِّر؟ فإن لم يحصل الإمداد كيف يسير هذا الكون؟