بسم الله الرحمن الرحيم.
بعد أن ذكر لنا تعالى "في سورة الشمس" عن الشمس والقمر لنعلم ما فيهما من آيات، وما ينبعث عنهما من خيرات، لفت نظرنا تعالى إلى آيتي النهار والليل..فقال تعالى:
{وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا، وَالليْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}:
ونبدأ بآية: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا} فنقول: ليس المراد بالنهار ذلك المعنى الضيِّق، وأعني به الوقت الذي به ينتشر ضوء الشمس، لكن كلمة (النَّهَارِ) إنما تعني ذلك الخير الكثير المتوارد من كل شيء، ونفصِّل بعض التفصيل فنقول:
كلمة (النهار) إنما مأخوذة من كلمة (نَهَرَ)، ونَهَرَ بمعنى: سال بقوة واتِّساع، ومنه النهر: أي: الماء الكثير، والناقة النَّهيرة، أي: الغزيرة اللبن، وأنهَرَ الدمُ: إذا سال سيل النهر.
فإذا كانت كلمة (النهر) إنما تعني الماء الكثير الجاري بقوة واتِّساع، فإن كلمة (النهار) لا تعني شيئاً واحداً، إنما تشمل الأشياء الكثيرة المتوارد عليك خيرها من الله توارداً كثيراً متَّصلاً.
فالفواكه في تواردها صيفاً شتاءً، لا بل في الفصول كلها، والحبوب والخضر في جريها عليك من الله جرياً دائماً، والهواء في تجدده، والينابيع في إمدادها الأرض بالماء إمداداً مطرداً... الخ. وبصورة عامة إذا أنت وسَّعت نظرك رأيت من كل شيء نهراً يفيض عليك بالخير من الله فيضاً عظيماً متواصلاً... وعلى هذا فكلمة (النهار) إنما تشمل ما تراه من كل شيء، في تواصل جريه، ودوام توارده وعدم انقطاع خيره.
فإذا أنت نظرت للأشياء نظرة شاملة من هذه الناحية أدركت طرفاً من معنى كلمة (النهار) التي ليس يحصيها بيان على قرطاس ولا تعبير في كتاب وعرفت ما تعنيه تلك الكلمة مما ينهال عليك من الله من الخيرات.
فالله تعالى يريد أن ينبِّهك إلى ذلك الخير الكثير المتوارد عليك بصورة دائمية من كل صنف ونوع، لتعلم مصدر ذلك ولتتعرَّف إلى ربك، ولتقدِّر فضل خالقك.
وأما كلمة (إِذَا جَلاَّهَا): فمأخوذة من جلَّى، وجلَّى: بمعنى كشف وأظهر وأخرج، ويعود الضمير (ها).. في كلمة (جلاها) إلى الخيرات التي شملتها كلمة: (النهار).. في ظهورها وخروجها لك من عالم الغيب إلى عالم الظهور والرؤية، وفاعل جلاّها هو لفظ الجلالة الله تعالى، وتدل كلمة: (إذا) على الكيفية التي يكون بها ظهور هذه الخيرات إلى حيِّز الوجود.
فانظر إلى القمح كيف يخرجه لك ويجلِّيه ربُّك، فهو ينبت ثم تخرج سنابلاً فتخرج شيئاً فشيئاً حتى يتم نماؤها ونضجها فتصبح لك طعاماً... انظر إلى العنب كيف تخرج عناقيده من براعمها، فتنمو شيئاً فشيئاً إلى أن يصبح طعمها سكَّرياً من بعد أن كان حامضاً. وفي اللبن كيف يخرج من بين فرث ودم نقياً خالصاً... وفي الأزهار كيف تنبعث روائحها العطرة وتتلوَّن بألوانها الزاهية، من بعد أن مرَّت في أدوارها ومراحلها، ومن بعد أن كانت لا لون ولا رائحة لها.
وهكذا كل ذلك توحيه لنا كلمة: (إِذَا جَلاَّهَا).. ويكون مجمل ما نفهم من الآية:
أي: انظروا إلى هذه الخيرات المتواردة من كل شيء، وإلى تلك الكيفية التي يكون بها ظهورها إذا أخرجها الله تعالى لكم وجلاَّها.
وننتقل الآن إلى كلمة: (وَاللَيْل).. فنقول: ليست كلمة: (الليل) قاصرة على ما يفهمه عامة الناس من أنه الوقت الذي تغيب فيه شمس النهار... إنما تدلُّ على ذلك الحال الذي ينتاب الأرض من عدم رؤية الأشياء رؤية واضحة جليّة، وما يرافق ذلك من هدوء وسكون ورطوبة وبرودة في الجو وغير ذلك من العوامل العديدة.
ويغشاها: مأخوذة من غشى، بمعنى: غطَّى وأتى وحلّ. تقول: غشى الأمر فلاناً، أي: أتاه وحلَّ به، وغشيته بالسوط بمعنى: ضربته.
فالليل يغشى ما خلقه الله لك من الخيرات فيغطِّيها بظلمته، ويأتيها ببرودة جوِّه ورطوبته، ويكون سبباً في سريان ما ينطوي فيه من العوامل والمؤثرات في أجسام الإنسان والحيوان والنبات، وإنه لولا الليل وما فيه لما نبت النبات، ولما نضجت الفواكه والثمرات، بل لاحترقت بحرارة الشمس ولما حصل النماء، فأنت ترى أن الثمرة المعرَّضة دوماً لأشعة الشمس والتي لم تُغطِّها الأوراق صغيرة الحجم متغيرة الطعم متأثرة من تواصل حرارة الشمس ولفح أشعتها.
وهكذا فالنباتات إذا لم يأتها الليل بما فيه من مؤثرات لما استطعت أن تتمتع بها وبما فيها من الخيرات. هذه ناحية من النواحي التي تجتذب نظرنا إلى الليل، وفي الليل ما فيه!. أفلا تنظر إليه كيف هو سبب في انتظام الحياة!.أفلا تفكر في الليل فتستعظم ما فيه من الخير وتنتقل من ذلك إلى تعظيم خالقه وتقدير عنايته بل وعطفه عليك.