بسم الله الرحمن الرحيم.
يسوق لنا سبحانه وتعالى في سورة الانشقاق طائفة من الآيات الدالة على عظيم رحمته وكبير فضله وحنانه، لتعلم أيها الإنسان أن الذي أكرمك بهذا الإكرام حريص عليك ومحبٌّ لك، ولا يريد فيما بيَّنه لك إلا تحذيرك وتنبيهك فلعلّك تنتبه لكلامه وتصغي إلى إرشاده وتسعى فيما يجعلك أهلاً لما أعدَّه تعالى لك من النعيم المقيم قال تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}. سورة الانشقاق، الآيات (16-19). ونبدأ بآية:
{فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ}
وكلمة (لا أُقسم): إنما تعني بيان شأن المذكور بعدها أي إنه عظيم جداً وأنك إذا فكَّرت فيه استعظمته واستكبرته لكنه عليه تعالى يسير وهيّن.
والشفق: مأخوذة من شفق بمعنى عطف وحنَّ، تقول: شفق فلان وأشفق على الصغير أي عطف وحنَّ عليه: وشفق على فلان أي: حرص على خيره وإصلاحه. والشفق: بقية ضوء الشمس وحمرتها عند الغروب.
سُمّي شفقاً لأنه دليل على شفقة الله تعالى وحنانه على خلقه. ولو أن الشمس كانت تغيب وهي على أشد ما تكون حرارة وتلاها الليل فجأة بجوِّه البارد وظلمته الشديدة لكان ذلك سبباً في تأثُّر النبات والأزهار والأثمار. وكذلك الإنسان والحيوان وإن تعمَّقتَ في النظر ودققت في الأمر وجدتَ أن ذلك يكون سبباً في موت النبات وهلاك الإنسان والحيوان، ولكن من رحمة الله أن جعل الشمس تميل إلى مغربها كما جعل الليل يغشى الأرض من بعدها بصورة تدريجية شفقة على الخلق وحناناً عليهم.
ويكون ما نفهمه من آية: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} أي: لا أقسم بما في الشفق من الخير والإحسان والعطف والحنان.
{وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ}:
وهذه الواو التي في أول هذه الآية إنما تبيِّن أيضاً شأن الليل فإنها تقول: ولا أقسم بالليل فهو في خيره عليكم عظيم جداً وذو شأن جدير بالإكبار والإعجاب لكنه عليه تعالى هيِّن ويسير.
وما وسق: أي: وما حمل وجمع. تقول: وسق المزارع سنابل القمح، أي: جمعها وحملها وأوسق الدابة، أي: حمَّلها ومنه الوسْق أي: الحمل. تقول: اشتريت وسقاً من تمر أو بطيخ. وإذا دقَّقت في كلمة (وَمَا وَسَقَ) وجدتها تحوي أشياء كثيرة مجموعة منطوية في هذا الليل محمولة فيه فإذا جاء الليل جاءت معه رطوبة الجو وبرودته ورافقه الظلام وخيَّم فيه الهدوء والسكون فكان ذلك سبباً في انتعاش النبات وإنماء الثمار وراحة الإنسان والحيوان.
وإنك إذا أخذت تبحث عن فوائد الليل لم تنتهِ عند حدّ ولم تحصِ ما فيه من الخير، ولو أن النهار كان يدوم لهلَكَت الأحياء ولما صلحت هذه الأرض للحياة.
{وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ}:
واتسق: اجتمع بغيره منتظماً في سيره. تقول: اتَّسقت الإبل، أي: اجتمعت إلى بعضها فلم يشرد بعضها عن بعض، وتقول: اتَّسقت أمور الدولة، أي: اجتمعت على نظام فليس في سيرها شذوذ أو خلل. واتّسقت أمور المدرسة، أي: سارت الأمور فيها سيراً حسناً، فعرف كل تلميذ صفَّه وموضعه، وعرف كل معلم تلاميذه والمادة المكلَّف بإلقائها وسارت الأمور فيها مجتمعة على نظام واحد.
وأما ما نفهمه من آية: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} أي: لا أقسم بالقمر إذا اتّسق أي إذا اجتمع بما وسق الليل من الخيرات، فكان القمر آلة منظِّمة يتوقَّف عليها سير ما في الليل من الخيرات وانتظام كل منها في وظيفته المخصّصة به، فإذا اتسق القمر أي: إذا اجتمع بها سارت تلك الأشياء مؤدِّية وظائفها على أتم وجه وأكمل نظام. ولتوضيح ذلك نقول:
هب أن معملاً فيه عمال كثيرون، ولكل منهم وظيفته المخصَّصة به، ومن تضافر أعماله بعضها إلى بعض يُنتج ذلك المعمل المصنوعات التي اختصَّ بها؛ فهذا المعمل لا بد له من رئيس يُشرف على العمال ويسيّر العمل فيه، فإذا ما جاء رئيس المعمل انتظم كل عامل في موضعه، وجرت الآلات في أعمالها، وأنتج المعمل ما ينتجه.
وكذلك التلاميذ في الصف إذا جاء المعلم انتظموا في الدرس، وساروا في أعمالهم ودروسهم على أكمل وجه، فإذا قلت اتّسق رئيس المعمل واتّسق المعلم فهمت المراد.
ويكون ما نفهمه من آية: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ}:
أي: لا أقسم لكم أيضاً بالقمر إذا اجتمع ما في الليل من العوامل القائمة على سعادتكم وراحتكم كيف أنه يكون جامعاً لها وسبباً في انتظامها في أعمالها.
وبعد أن بيَّن لنا تعالى في الآيات الثلاث الأخيرة ما يذكِّرنا بشفقته وحنانه، أراد تعالى أن يبيِّن لنا أن حالنا في الآخرة إنما هو متطابق مع حالنا في الدنيا سواءً بسواء. فللمحسن الإحسان، وليس للمسيء سوى الشقاء والعذاب قال تعالى:
{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}:
وتفصيلاً لذلك نقول: تَرْكَبُنَّ مأخوذة من ركب، تقول: ركب الدابة، أي: علاها وامتطى ظهرها، وركب السفينة، أي: سافر فيها، وركب الخوف والمرض، أي: حلَّ به الخوف والمرض ولازمه.
والطبق: مأخوذة من فعل طَبَقَ. وطبق الشيء على الشيء، أي: أصابه من جميع جهاته، تقول: طبقت اليد اليمنى على اليسرى... والفك على الفك. والطبق هو المطابق أو الحال المماثل. تقول: هذا الكتاب طبق هذا الكتاب، وهذا الدواء طبق هذا المرض، ومنه قولهم: الدهر أطباق، أي: أحوال تصيب الإنسان بصورة مطابقة ومماثلة لما يناسبه.
ويكون ما نفهمه من هذه الآية الكريمة:
أن حال الإنسان في الآخرة مطابق تمام المطابقة لحاله في دنياه، فإن كان محسناً فبقدر إحسانه يكون نعيمه ورقيُّه، وإن كان مسيئاً فبقدر إساءته وإجرامه يكون عذابه وتدنّيه.
قال تعالى:
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَئُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى). سورة النجم: الآية (31).