بسم الله الرحمن الرحيم
يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، في سورة الماعون:
{أَرَءَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}
في هذه الآيات الكريمة خرج الاستفهام هنا عن الغرض الأصلي الموضوع له، وهو طلب العلم بالشيء، وجاء لتقرير الأمر وبيان ثبوته، ويكون ما نفهمه من آية:
{أَرَءَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}:
أي: انظر أيها الإنسان حال المكذِّب بالحق، وعاين ما يصدر عنه من الأعمال الخبيثة. وحتى نستطيع أن نفهم كلمة (الدِّين) على حقيقتها.. نضرب المثال الآتي، فنقول: لا بدَّ لكلِّ مصنع من المصانع حينما يُريد إخراج آلة إلى السوق من أن يُرفقها بنشرة من النشرات، ترى ماذا تتضمَّن هذه النشرة؟.
إنها تتضمَّن طائفة من الوصايا والتعليمات وضعها صانع هذه الآلة العليم بما ينفعها ويضرُّها، الخبير بالأصول التي يجب أن يُطبِّقها المستفيد منها، فإذا ما طُبِّقت على الوجه الأكمل، كان ذلك سبباً في سير هذه الآلة سيراً حسناً لا خلل معه ولا اضطراب، ومن الطبيعي أن كل ذي خبرة وعلم يرتاح قلباً ويطمئن نفساً إلى هذه الوصايا والتعليمات، فإذا طبَّقها طبَّقها عن طيب نفسٍ ورضا، ولو أنك قُدِّر لك أن تطَّلع إلى ما انطوت نفسه عليه تجاه هذه التعليمات لوجدت خضوعاً وارتياحاً، بل لوجدت اطمئناناً بها وسكوناً، وأكثر من ذلك أنه كلما ازداد المرء علماً وخبرة بالآلة ودقائقها وأصول استعمالها ازداد تقديره لواضع هذه النشرة، وازداد استسلامه لتعليماته وحرصه على تطبيقها دون أدنى تقصير أو تهاون.
ولا أريد أن أطيل الشرح وأبالغ في وصف الحال النفسي لهذا المستفيد العالِمُ بالآلة، بل أقول موجزاً إنه يدين أي تخضع نفسه مستسلمة وتركن مطمئنة مرتاحة لهذه التعليمات، من بعد أن رأت خيرها وفائدتها وتحقَّقت من سعة علم واضعها، فإذا هي خاضعة له مشحونة بالإجلال والتقدير.
أما وقد وضَّح لنا هذا المثال طرفاً مما تُشير إليه كلمة (الدِّين)، نقول:
الدِّين: كلمة جامعة تجمع في طياتها ذلك النظام الذي وضعه خالق الإنسان لهذا الإنسان، إنها تعني تلك القواعد التي أمر الله تعالى الإنسان أن يُطبِّقها في هذه الحياة ليفوز بما أعدَّه له من السعادة والخيرات.
الدِّين: مجموعة أحكام وأوامر إلۤهية شرعها الله تعالى في كتابه وأنزلها على رسوله وأمره أن يبلِّغها لعباده، فإن هم ساروا عليها وطبَّقوها عاشوا في هذه الحياة الدنيا بأمان واطمئنان، وظفروا من بعدها بسعادة أبدية لا حدَّ لها ولا انتهاء.
وقد سُمِّيت تلك المجموعة من الأحكام والأوامر الإلۤهية ديناً، لأن النفس البشرية إذا هي آمنت بخالقها وعرفت ربَّها وتوثَّقت به صلتها فهنالك تطمئن إليها وتستسلم وتخضع وتدين.
وكيف لا تخضع وتدين وقد رأت ما فيها من السعادة وما اشتملت عليه من الخير؟ خير النفس والجسد، خير الفرد والمجتمع، لا المجتمع الصغير مجتمع الأسرة فحسب ولا مجتمع قوم أو أمة، بل مجتمع البشرية عامة وسعادة الخلق كافة.
وحيث إن رسول الله ﷺ كانت له بربه أعظم صلة وأشد تقدير وإكبار، وحيث إنه ﷺ بهذه الصلة العالية وبذلك القرب والزلفى من الله صارت له أوسع مشاهدة ورؤية لما في أوامر الله من السعادة والخيرات، لذا كان له من الميل لأوامر الله وكان لديه من الخضوع لها والاستسلام أن دانت نفسه لها ديناً ما دانه أحد مثله من العالمين، ولذا خاطبه ربه بقوله الكريم، إذ قال تعالى: {أَرَءَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}.
أي أرأيت الذي يكذِّب بما دانت نفسك إليه من أوامر وما خضعت مستسلمة له من أحكامي وشريعتي، أرأيت كيف أنك دِنْتَ إلى أوامري مُستسلماً سابحاً بفضلي على ما بيَّنت وأرشدت، مقدِّراً عنايتي بما هديت وشرَّعت، وكيف أن ذلك البعيد عني الكافر بنعمتي يكذِّب ولا يصدِّق، يُعارض ويُعاند، ولو أنه سلك الطريق التي أنت سلكت وآمن بي كما آمنت لدان لأوامري كما دنت ولخضع كما خضعت واستسلمت، لكن كفره وبعده حجبه وأعماه. قال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ، وَلاَ الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ) سورة فاطر: الآية (19-21)..
نعم إنه الله تعالى يخاطب رسوله الكريم بهذا الخطاب، وما يريد بكلمة (أرَءَيْتَ) سؤالاً ولا استفهاماً، لكنما يريد تقريراً لقانون من القوانين وبعثاً للتفكير ودعوة إلى التأمُّل والتدقيق، وأخذاً بأيدي الناس كافَّة إلى المقايسة والمقارنة ثم الوصول إلى عقل حقيقة ثابتة وهي:
أن الإيمان بالله تعالى يُنير لصاحبه سُبل السعادة ويهديه إلى رؤية ما في أوامر الخالق العظيم من صلاح ورشاد وخير، وهنالك يخضع ذلك الإنسان لتلك الأوامر الإلۤهية ويدين كما دان سيِّد المؤمنين ورسول رب العالمين.
{فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}.
والآن وبعد أن قرَّر تعالى هذه الحقيقة الثابتة في الأذهان بما أورده في الآية الكريمة الأولى من بيان، أراد تعالى بهذه الآية الكريمة السابقة أن يُعرِّفنا بأحوال من يكذِّب بالدين، وما انطوت عليه نفسه من وصف دنيء، إذ بتكذيبه بالحق أي بالدين انقطعت صلته عن الله، وبذلك الانقطاع أصبح فاقد الحنان.. محروماً من الرحمة وعاطفة الإحسان..
ثم أتبع تعالى ذلك بوصف آخر لذلك المعرض البعيد، فقال تعالى: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}.
ولكن لا تحسبنَّ ما وصف به تعالى حال المكذِّب من دعِّ اليتيم وصفاً بسيطاً يتناول خُلقاً من أخلاقه، إنه أسوأ وصف يُوصَف به إنسان، إنه وصف يُفيد أن صاحبه مجرَّد من كل صفة إنسانية عالية، إنه وصف لأشرِّ مخلوق على صورة إنسان، إنه وصف يعني أن المكذِّب بالدين امرؤ محروم من الرأفة والرحمة ومن حُرِم الرأفة والرحمة فقد حُرِم الخير كله.
اليتيم: من فقد أباه ولم يبلغ بعد مبلغ الرجال فإذا هو بحاجة إلى من يعطف عليه ويرعاه.
أما كلمة (يدعُّ) فمأخوذة من دعَّ، أي: دفع دفعاً عنيفاً وبجفوة، على أنه ليس المراد من دعِّ اليتيم دفعاً بيد أو إقصاء عن مكان، إنما المراد عدم المبالاة به والالتفات إليه التفاتة عطف وحنان.
فالذي يرى يتيماً منقطعاً، ولا يؤويه إن كان مشرَّداً، ولا يُسعفه إن كان يشكو ألماً ومرضاً، والذي يرى يتيماً ولا يُطعمه إن كان فقيراً معوزاً، ولا يكسوه إن كان عرياناً يرجف برداً، وبكلمة موجزة:
الذي يرى اليتيم بحاجة إلى أيَّة مساعدة فيقابله بجفوة أو بنَهْرةٍ في القول، أو الصدودُ عنه بالنفس، وعدم شموله بالرعاية والعطف، ولا يمد له يداً بمعونة ولا يجد له في قلبه نحوه عطفاً ورحمة، فذلك ممن ينطبق عليه الوصف الوارد في هذه الآية الكريمة، فإذا ما رأى من إنسان عطفاً على يتيم، وإن شئت فقل: إذا دعوته يوماً إلى الإحسان إلى يتيم قال لك بصدود وجفوة دعني منه فلست مكلَّفاً به أو دعه يموت فما لك وله وما تفيد من مساعدته، ذلك طرف مما نفهمه من كلمة: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}.
وأنت ترى من خلال ما قدَّمناه أن الذي يدعُّ اليتيم امرؤ فاقد الرحمة والحنان، ومن فقد الحنان والرحمة فاحذر منه على نفسك الحذر كله، إذ ليس بغريب على من حُرِمَ الرأفة والرحمة إذا أغرته نفسه بالمال أن يقتلك ويذهب بحياتك ويدع أطفالك أيتاماً من بعدك، دون أن تتحرك من قلبه أية عاطفة لأنه لا يهمُّه إلا ما يضمن مصلحته، وليس بمستبعد على من حُرِم الرأفة والرحمة أن يعتدي على الأعراض فيفجع المرأة بأعز ما تملك، حتى إذا أشبع شهوته منها تركها وشأنها ورماها في أحضان الفاحشة والشقاء، وليس بغريب ممن حُرِم الرأفة والرحمة أن يُلقي ببناته وبنيه في المفاسد والمهالك، تخلُّصاً من نفقتهم أو طمعاً في أن يجلبوا له المال.
وخلاصة القول: أن المكذِّب بالدين بتكذيبه انقطعت صلته عن الله، وبذلك الانقطاع أصبح فاقد الحنان، محروماً من الرحمة وعاطفة الإحسان.
وإن شئت فقل: ليس بالغريب ممن يدعُّ اليتيم أن يقترف كل موبقة وفعل مُشين، كما أنه ليس بغريب منه ألاَّ يحضّ على طعام المسكين، ولذا أتبع تعالى الآيتين بعضهما ببعض، إذ قال تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}. وهكذا فدعُّ اليتيم كاشف من الكواشف التي تُظهر حقيقة هذا الإنسان المحروم من العطف والحنان، وصفة تُنبِّئ أن صاحبها هو الإنسان المؤذي المخيف، وهو الذي يجب أن تحذره أكثر مما تحذر الكاسر من الوحوش والضاري من الحيوان، فهو الوحش المختبئ في جلد إنسان وهو أشر من كل مخلوق وأخطر من كل حيوان.
وإن شئت تفصيلاً لكلمة:
{وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}
نقول: تأتي كلمة (حضَّ) بمعنى: حثَّ وحرَّض. وكما أن التكذيب بالدين يجعل الإنسان محروماً من الرحمة، فاقد العواطف الإنسانية النبيلة، فهو أيضاً يجعلهُ خسيسَ النفس، متَّصفاً بالشح والبخل، فهو لا يساعد المسكين ولا دافع يدفعه إلى الإحسان إليه.
والمسكين: هو العاجز، أقعدته علَّة من العلل عن عمله، فأضحى لا يقوى على كسب رزقه والقيام بأود عياله وأسرته.
فالمريض المدنف والأعمى والمقعد والذي أصابه العجز بسبب شيخوخة وتقدُّم في السن، وإن شئت فقل كل امرئ لازمته علَّة من العلل سبَّبت له عجزاً عن كسب الرزق تشمله كلمة (مسكين)، وهو أيضاً قريب في الوصف من اليتيم من حيث ضرورة مساعدته والعطف عليه. ومن المؤسف أن من صفات المكذِّب بالدين أنه لا يرحم يتيماً ولا يعطف على مسكين.