بسم الله الرحمن الرحيم
لقد بدأ تعالى سورة البلد بطائفة من الآيات الدالة على عظمة الكون ودقة صنعه، لأن تعظيم الكون والتطلُّع إلى إحكام صنعه يسوقُنا إلى تعظيم خالق الكون وموجده، وهذا التعظيم للخالق جل جلاله يحملنا إلى الإصغاء لكلامه والإذعان لهداه وعالي دلالته، ولذلك قال تعالى:
{لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}:
والبلد: هو المقر والمقام وعلى هذا بلد كل إنسان مكان إقامته، وإذا نحن وسَّعنا النظر إلى أبعد من هذا ونظرنا نظرة تتناسب مع شمول كمال الله لما ينطوي عليه الكون من أشياء وما ضمَّه بين أرضه وسمائه من مخلوقات، وإذا نحن نظرنا هذه النظرة الواسعة رأينا الكون كله بلداً واحداً ومقاماً لهذه المخلوقات، فلكل طائفة مقر ولكل فئة منها فيه مسكن.
فسطح الأرض اليابسة: مقام هذا الإنسان، وبطن الأرض مقام النمل والحشرات، والبحار مقام الأسماك، وهذا الفضاء الواسع الذي لا يتناهى موطن النجوم السابحات وهكذا فالكون كله بلد واحد. فإن نحن نظرنا هذه النظرة الواسعة عظَّمنا خالقنا وأكبرْناه وعرفنا جلاله تعالى.
وقد أراد تعالى أن يعرِّفنا بعظمته أكثر فقال سبحانه: {لاَ أُقْسِمُ}: أي: إذا كنت أيها الإنسان قد شهدت ما شهدت من عظمة الكون فاعلم أن خالقك أعظم وأنه لا حدَّ ولا انتهاء لعظمته. فالله يقول لك:
هذا الكون العظيم الذي تحار فيه العقول (أنا لا أقسم به) لأن القسم لا يكون إلاَّ بعظيم والكون كله في تدبير شؤونه وتأمين سيره لا بل في إبرازه لهذا الوجود وإحكام صنعه ذلك كله عندي هيِّن ويسير.
وبعد أن ذكر لنا تعالى الآية الأولى التي نتعرَّف منها إلى هذا الكون فنعرف قدر خالقنا، ذكر لنا أنه لم يحدِّثنا عن شيء لا نشهده ولا نراه، وإنما حدّثنا عما هو واقع تحت أعيننا ومشهود لكل إنسان فقال تعالى:
{وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}:
والحلُّ: هو المقيم الساكن أي: وأنت أيها الإنسان مقيم وساكن بهذا البلد، فأنت ترى ما فيه من آيات وتشهد ما يحيط بك من الكائنات، وتستطيع إذا أنت فكَّرت أن تتعرَّف إلى خالقك الذي أوجد هذا البلد، وجعله موطناً لهذه المخلوقات. ثم لفت تعالى نظرنا إلى ذلك النظام الذي بموجبه تتكاثر المخلوقات في هذا البلد فقال تعالى:
{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}:
فالله تعالى لم يخرج الخلق إلى هذا العالم دفعة واحدة بل جعل خروجهم متتابعاً متتالياً، وجعل لذلك قوانين ونُظماً، وجعل ذلك على كيفية تبيِّن معها الحكمة والقدرة والرحمة الإلۤهية، ليكون لهذا الإنسان من ذلك كله عبرة وآية، فلعله إذا هو فكَّر في ذلك بعض التفكير اهتدى إلى خالقه وعرف موجده ومربِّيه.
وتشير آية: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} إلى ناحيتين اثنتين: فكلمة (ووالد) تشير إلى الأبوين اللذين يتولَّد ويخرج منهما ولدهما، وكلمة (وما ولد) تشير إلى الولد كما تشير إلى النظام الذي بموجبه خرج من أبويه. وبالحقيقة ما من مخلوق حيّ إلا وله والدان ذكر وأنثى تولَّد منهما وخرج إلى هذا العالم بواسطتهما. فمن الذي خلق من كل شيء زوجين؟. من الذي جعل هذا ذكراً وهذه أنثى ثم جعل بينهما تعاطفاً وتآلفاً ومودّةً وتجاذباً؟. من الذي أوجد فيهما تلك الغرائز والخصائص وأودع فيهما ما أودع من رحمة وحنان وعواطف، فكان من أحدهما الوالدة وكان من الآخر الوالد؟.
ذلك بعض ما نستطيع أن نفهمه من كلمة (ووالد) فلننتقل إلى كلمة (وما ولد): فنقول:
من الذي أودع الابن في صلب أبيه؟ أم من هذا الذي نقله إلى رحم أمه وجعل يرعاه بعين عنايته ويربِّيه؟
من الذي خلق النطفة علقة، ثم خلق العلقة مضغة، ثم خلق المضغة عظاماً، فكسا العظام لحماً، وجعل لهذا المخلوق الجديد معدة وأمعاء وكبداً وقلباً؟ من الذي جعل له أعصاباً وعروقاً وأجهزة وأعضاء مناسبة؟ من الذي ركَّب الإنسان هذا التركيب البديع؟ أفنطفة من ماء مهين، أفجرثوم صغير يستطيع أن ينقلب بنفسه ويتطوّر فيصبح إنساناً سوياً دون أن يربّيه مربٍّ ويعنى فيه؟ أم هل خلقك أبوك؟ أم خلقتك أمك؟ أم أنّ خالقاً عظيماً خلقك وعُني بك حتى صرت بهذا الحال الذي أنت عليه؟ أفبعد أن بلَغتَ أشدَّك وصرت رجلاً نسيت خالقك وإحسانه إليك؟
أفلا تفكِّر في أصلك ممَّ خُلقت، وقد أتى عليك حينٌ من الدهر لم تكن شيئاً مذكوراً؟
أفلا تذكر ذلك اليوم الذي كنت فيه مخلوقاً ضعيفاً وجرثوماً ضئيلاً!
أفلا تنظر إلى نفسك يوم كنت تسبح في النطفة مع ملايين الملايين من الجراثيم، ولا تستطيع أن تراك يومئذ لِدقَّتك العينُ! أفلا تثوب إلى رشدك فتذكر تلك القدرة التي خلقتك، واليد الرحيمة الحكيمة التي عُنيت بك وربَّتك، فتعلم أن لك خالقاً عظيماً وإلۤهاً قديراً ومربّياً رحيماً.