بسم الله الرحمن الرحيم
الآية الكريمة التالية تدعونا إلى الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، والاعتزاز به جلّ جلاله. يقول تبارك وتعالى في سورة الفلق:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}
فكلمة (قُلْ أَعُوذُ) أي: قل لنفسك أيها الإنسان أن تعتز وتلتجئ إلى ربِّ الفلق، فما هو الفلق؟
الفلق: مأخوذة من فَلَقَ، وفَلَقَ أظهر الشيء بعد احتجابه، وكشف عنه الظلمة، والفلقُ هنا: كلمة جامعة تشمل كل ما أظهره الله تعالى، وما سيظهره إلى الوجود، مما كان موجوداً في علمه تعالى من قبل في عالم الأزل، يوم إيجاد الأنفس.
وإذا كان البعض يدركون من كلمة (الفلق) معنىً واحداً، ويظنون أنها قاصرة على الصبح تنشق عن نوره الساطع ظلمات الليل البهيم، فإذا هو بادٍ ظاهر الضياء، فإن كلمة (الفلق) في حقيقتها تشمل كل مخلوق وكل موجود من الموجودات، وينطوي تحت كلمة (الفلق): الأرض والسماء، والشمس، والقمر، والحر، والبرد، والليل والنهار، والإنسان والحيوان، لا بل كلّ شيء أوجده الله في هذا الكون، أو سيوجده أو يُظهره إلى العيان، وعالم الصور والأجساد.
نعم إنّ كلمة (الفلق) تشمل كل مخلوق شقَّت له يد العناية الإلۤهية طريقاً إلى الوجود، فبدا كالصبح ظاهراً للعيان من بعد أن لم يكن من قبل شيئاً مذكوراً، لا تراه عين ولا تشعر به نفس ولا يعلم بوجوده أحد من المخلوقات.
فالله سبحانه وتعالى فالق الإصباح، يشق لك ظلمات الليل فيبدي لك منها النور والضياء، فإذا بالصبح الذي شقَّ الله تعالى عنه الظلمات وأظهرها للعيان يسمَّى "فلقاً"، والله تعالى فالق الحب والنوى، يشق الحبة والنواة فيبدي لك منها نبتة خضراء ذات سويقات صغيرة، وجذوراً وأوراقاً، فإذا النبتة التي شقَّ الله تعالى طريقها إلى الوجود وأظهرها من بعد أن كانت منطوية في خفايا علمه تعالى تسمى "فلقاً".
وكذا البراعم تبدو على الأغصان، والأزهار تتفتح عنها البراعم كما تتفتح عن الأوراق، ثم الأزهار تنعقد منها الأثمار، والبذور تتكون في باطن الثمرات، وإن شئت فانتقل معي إلى الطعوم والمذاقات، والروائح العطرة والأشكال، والخصائص والألوان والمواد المختلف تكوينها بالتربية الإلۤهية في شتى الأقاليم والأوساط، دون حصرٍ ومصرٍ على بحار أو أنهار وسهول أو جبال، وأرض أو سماء، كل ذلك بما تشق له يد التربية الإلۤهية طريقه إلى الوجود في كل لحظة وآن يسمَّى فلقاً، لاشتراكه في الوصف مع الصبح الذي تشق له يد التربية الإلۤهية طريقه إلى الوجود، ومن بعد انمحائه في غياهب الظلمات واختفائه في بطون العدم.
فالفلق: هو كل شيء يظهر من الخفاء إلى العيان. وهو يشمل كل ما يُظهره الله تعالى لك ومن أجل حياتك من ظلمة الغيب والخفاء إلى حيِّز الوجود والعيان ومن عالم الغيب إلى عالم الشهود.
وكلمة (الفلق) إنما تلفت نظرك إلى عظمة هذا الشيء، إلى دقَّة تكوينه إلى حسن تنظيمه، إلى حكمة خالقه إلى كل ما يتبدّى فيه من الآيات الدالّة على خالقه وموجده، هذه الآية تقول:
انظر أيها الإنسان إلى كل ما يخرج ويظهر من المواد والأثمار التي بها حياتك وبقاؤك، ثم فكِّر ودقِّق وتعمَّق في التفكير في ذلك، فكِّر في هذه الحركة الدائمة والنظام القائم الذي بموجبه تخرج النباتات وتتولَّد الثمرات أيضاً فترة ففترة وآناً بعد آن، إنه لو لم يكن خالق يخلق ومُوجد يُوجد لما استمر السير ولانقطع الظهور والخلق، بل لصار العالَم كله إلى اضمحلال، فكِّر في ذلك كله تهتدي منه إلى خالقه.
ولو أننا أردنا التوسع في كلمة (الفلق)، لما وسعنا الوقت مهما امتد وطال، غير أن النظر في هذا الكون القائم على هذا النظام، والتدقيق فيما يظهر فيه من مخلوقات آناً بعد آن، وإعمال الفكر وإجالة الطرْف فيما يقع عليه النظر من المخلوقات، وما يدل عليه هذا الخلق من علم وحكمة وفضل ورحمة وحنان، كل ذلك يزيدنا علماً بهذه الكلمة، كلمة {رَبِّ الْفَلَقِ} ويزيدنا تعظيماً بصاحب هذه التربية وهنالك نستطيع أن نعوذ به حقاً مقتدين برسول الله ﷺ.
فإذا ما سمع أحدنا رسول الله ﷺ يتلو عليه قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}... عرف من هذه الكلمات معانيَ كانت نفسه شهدتها، وذكر أشياء لا تحصى كان نظر النفس قد سرى بها جميعها، فكانت هذه التلاوة له تذكرة وذكرى، وكانت هذه التلاوة سبباً في عياذه برب الفلق من جديد، ووسيلة لانغماسه في حضرة القرب الإلۤهي مرةً أخرى.