خلاصة هذه القصة "قصة أصحاب الفيل" أن أحد ملوك اليمن ابتنى كعبة في حاضرتها صنعاء، ليصرف الناس إليها ويُحوِّلهم عن الكعبة بيت الله الحرام، وعزم ليهدمنَّ الكعبة فسيَّر جيشاً في طليعته فيل عظيم ومن ورائه أفيال، وظنَّ أن له فعلاً، وحسب أن له قوة وأن باستطاعته تنفيذ ما صمَّم عليه، ولم يدرِ أنه ليس له من الأمر شيء، وأن الأمر كله لله، فلمَّا أضحى على مقربة من مكة شاءت الرحمة الإلٓهية أن تُذكِّر أولئك المعتدين بخطئهم فيما اعتزموا عليه، وأن تُوقيهم الهلاك الذي سيصيرون إليه إن لم يرجعوا عمَّا هم فيه من التصميم على العدوان فحوَّل ربُّك الفيل العظيم الذي يتقدَّم في الطليعة وتحوَّلت من بعده الفيَلة مُدبرة، وما كانت لتسلس قيادها لأصحابها وما كانت لتولّي وجهها شطر الكعبة، وأخيراً ومن بعد تذكير مُلِحْ ورغماً عن تذكير أكيد، وبناءً على تصميم المعتدين على العدوان وصممهم عن التحذير الإلٓهي، أراد ربُّك أن يجعل من هؤلاء القوم عبرة لكل معتدٍ أثيم، فأرسل تعالى عليهم سرباً من طيور ضعيفة ترميهم بحجارة صغيرة فجعلت من هلاكهم عبرة باقية تُذكِّر كل باغٍ بمصرعهم، موعظة لا تُنسى على الدهر، وكيف تُنسى وقد جاءت تردِّدُها آي الذِّكر الحكيم الذي تعهَّد تعالى بحفظه من كلِّ تحريف وتغيير. يقول سبحانه وتعالى:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ}
هذه الآيات الكريمة تقول:
لا تُبالِ أيها الرسول الكريم بخصومك مهما كادوا لك ومهما تآمروا ولا تكُ في ضيق مما يمكرون، فما هم بمستطيعين أن يردُّوا ما جئت به من الحق، أو يحولوا دون نشر ما أنزله الله من الكتاب عليك، فمهما يكن خصمك قوياً فالله سبحانه هو القوي ومنه تعالى يَستمدُّ القوةَ كلُّ قوي، ومهما يكن لمعارضيك من كيدٍ ومكرٍ وتدبير، فالله هو السميع العليم وما يمكرون إلاَّ بأنفسهم وما يشعرون، وإني لمؤيِّدك وناصرك وإني من ورائهم مُحيط.
إنها واقعة مماثلة لما يجري في كل زمان، فالله تعالى يخلق من الضعف قوة، فقد يكون ردع الطاغية الظالم بالعذاب الأليم... بزلازل أو بجراد أو فيروسات، وهذه واقعة مشهودة إبَّان إشراق شمس رسول الله ﷺ بمولده الشريف، حين أرادوا تحويل الدين القويم لدنيا دينة والكعبة التي جعلها تعالى بعيدة عن الدنيا وأكرمنا بروحانية رسوله الكريم ورسله عليهم السلام من خلالها أرادوها لمكاسب اقتصادية وأرادوا تغيير قانون الله إذ: {جَعَلَ اللهُ الكَعْبةَ البَيْتَ الحَرامَ قِياماً للنَّاسِ والشَّهرَ الحَرَامَ..} سورة المائدة: الآية (97): شهر ذي الحجة شهر الحج الأكبر، فصمَّموا على طريق الغواية وهدم طريق الهداية، فعاد عليهم عملهم بأبسط المخلوقات وكانوا عبرة لكلِّ باغٍ وظالم ولعلَّ الظالمين يرجعون؛ وعبرة سامية ودروساً بالغةً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ألم تر ما حلَّ بأولئك المعتدين يوم جاؤوا معتمدين على قوَّتهم والهلاك الذي صاروا إليه!
ألم تعلم أني أنا الفعَّال وأني أنا المتصرِّف بهذا الكون لا إلٓه غيري وأني على كل شيء قدير!
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}
فإذا كان المخاطب الأول بهذا الكلام الرسول ﷺ، فلا شك أن فيها إشارة وخطاباً ضمنياً لكل مؤمن وتثبيتاً لكل داعٍ إلى الحق ومُرشد.
ففيها من التثبيت على الحق والتشجيع على المضي في الدعوة ما يجعل الداعي يسير قدماً غير مُبالٍ.
وفيها من التعريف بالتسيير الإلٓهي ما يجعل المؤمن يتذكَّر دوماً أن المتصرِّف الحقيقي في الكون هو الله وحده، وما على الإنسان إلاَّ أن يصلح نيته والله آخذ بيده وناصره.
وهكذا ففي هذه الآية الكريمة تشجيع للمؤمنين على الصبر في نشر الحق، وطمأنة لهم وتثبيت، وفيها إنذار للمعارضين في كل عصر وحين، وتوقية لهم من الهلاك وتحذير، وفيها بيان بأن الأمور في هذا الكون لا تجري جزافاً، فالله وحده هو المتصرّف والمسيِّر وهو الله لا إلٓه إلاَّ هو، وهو العزيز الحكيم، وما ذلك كله إلاَّ طرف ممّا تضمَّنته هذه الآية الكريمة واشتملت عليه.
فيا أيها الإنسان المكرَّم عند ربِّك.. ربُّك يحذرك وينذرك لطريق تتقي به وجه الدنيا الفتَّان القاتل.. يرشدك على لسان حبيبه ﷺ محذِّراً منذراً ما حلَّ بمن سبق ممن لم يسلكوا سبل الهداية وقادهم حب دنياهم للإلحاد في آيات ربهم يريدون تغيير القبلة طمعاً وجشعاً:
لا.. لا.. فلستم معجزين، وإني أمهِلُ رحمةً وحناناً مني بكم ولا أهمل، تعاليتُ عن الإهمال فلقد وسِعَ كرسيِّ السموات والأرضَ وما من ذرَّة في الكون أو مجرَّة إلاَّ وهي تسير بعلمي وبإمدادٍ مني وأنا الرحمن الرحيم بمعاملاتي لكم.
فعودوا لرشدكم والعود أحمد، وفكِّروا قبل أن تصرُّوا على عمل يرديكم بنتائجه دنيا وآخرة، فنفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشَّر؛ فها أنا ذا أذكِّركُم بما حلَّ بمن سبق.
وإنها ليست قصص أسطورية أوَّلية، بل هي دروس وعبر لكلِّ من اتَّخذ من التفكير صاحباً ومركباً يجوز به مشتهيات نفسه المهلكة، بالحرمان من عالي جناني والقرب من عالي جنابي... لقد هلكوا لما أصرُّوا على طغيانٍ وفسادٍ في الأرض أرادوه ولم يعجزوا فيها بقوتهم فلقد أَهْلَكْتُهُم بأضعف مخلوقاتي، ووسمتهم على الخرطوم، فهل دفعت عنهم قُوَّتُهُم؟! وهل خلَّصَهم من كيدي وتدبيري الخَيِّر الحكيم كيدُهم الشرير؟!
إنَّها دروس وعبر لكلِّ من كان له قلب أو ألقى السمع أو البصر.
{لَقَد أنزَلنَا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ..}
سورة الأنبياء: الآية (10)