بسم الله الرحمن الرحيم
في هذه الآيات الكريمة "من سورة الناس" يُرشدك الله تعالى أيُّها الإنسان إلى الوسيلة التي تخلِّصك من شرِّ الشيطان ومن وساوسه، فإن أنت تمسَّكت بإرشاده تعالى فعندها تُبصر حقيقة كل شيء. وبِذا تُميِّز الشر من الخير، ولا يعود لهذا العدو عليك من سبيل، ولذا قال تعالى:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}.
والمراد بكلمة (قُلْ أَعُوذُ): أي: قل أيها الإنسان لنفسك إني أعتز وألتجئ.
وليكن حالك دوماً حال المعتز بربِّه، المتمسِّك بمالكه، الملتجئ إلى إلٓهه ومسيِّره، وقد بيَّن لك تعالى ثلاث صفات من صفاته ليكون ذلك سبباً يحمل نفسك على الإقبال عليه، ودافعاً يجعلك ترى ضرورة هذا الإقبال فلا تجد لك مندوحةً عنِ الاعتزاز به والالتجاء الدائم إليه، فهو تعالى: {رَبّ النَّاسِ}.
والربُّ: هو المربي المُمِدُّ بالحياة، ولا يقتصر إمداده على عنصر من عناصرك، بل يشمل نفسك وجسدك وكل عضو من أعضائك.
وبشيء من التفصيل نقول:
العينُ وما فيها من الأجهزة والطبقات التي تُعينها على رؤية الأشياء، والأذن وما فيها من الأغشية والعظيمات التي تساعدها على سماع الأصوات، والقلب وما فيه من أربطة وأوتار، والجهاز الهضمي وما يتعلَّق به من غدد وعصارات، وإن شئت فقل: كل ذرَّة من ذرات جسمك، لا بل كل حجيرة من حجيراتك مهما صغرت ودقَّت، حتى تصل إلى ما لم يتصوَّره خيالك، أو يدركه فكرك، كل ذلك يقوم وجوده ويستمر بقاؤه ويبقى كيانه وتكوينه بهذا الإمداد المتواصل.
فإمداده تعالى لك كلّي، وإمداده تعالى دائمي لا ينقطع أبداً، ولا يتوقف عنك في لحظة من اللحظات. وهو تعالى:
{مَلِكِ النَّاسِ}
والملك: هو الذي مَلَكَ الناس بإمداده وتربيته، فهم باحتياجهم إليه مستسلمون له، ومفتقرون لفضله وإمداده، وهم مضطرون دوماً بنفوسهم وأجسادهم لاستدامة الصلة به، واستمرار الإقبال عليه. وهو تعالى:
{إلٓهِ النَّاسِ}
والإلٓه: هو المُطاع والمسيِّر طوعاً أو كرهاً، فهو إلٓه الناس يسيِّرهم على حسب اختيارهم، بما يناسبهم وبما يكون به صلاح حالهم، فبه تعالى سيرك في أعمالك وجميع شؤونك، وبه تعالى تسيير كل عضو من أعضائك.
فاليد تعمل وتتحرك، والعين ترى وتُبصر، والأذن تصغي وتسمع، والأنف يشم، والفم يمضغ، واللسان يتحرَّك ويتكلَّم، والقلب يتَّسع وينقبض، والصدر يعلو ويهبط.
وبصورة مجملة: ما من حاسة من حواسّك، ولا عضو من أعضائك إلاّ وهو مسيَّر بأمر الله تعالى، وخاضع لتسييره، فَلَكَ المشيئة والاختيار، ومنه تعالى الحول والقوة والتسيير في الأعمال.
فربُّ الناس ومَلِك الناس وإلٓه الناس يأمُرُكَ بأن تعوذ به دوماً في كل لحظة من اللحظات.
وكلمة (الناس): اسم جنس لبني آدم، وقد سُمُّوا بالناس لأنهم بمجيئهم لهذه الدنيا وخروجهم لعالم الصُّور والأجساد نسوا ما كانت عليه نفوسهم في عالم الأزل من المعرفة بالله تعالى، فكان هذا الجسد المادي حجاباً حجب النفس عن معرفتها بذاتها من حيث ضعفها وحاجتها وافتقارها الكلِّي إلى خالقها ودوام عنايته بها، فإن هي عادت إلى الإقبال على ربِّها تذكَّرت حالها الأول ورجعت إلى سابق معرفتها، قال تعالى:
(... وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ) سورة غافر: الآية (13)
(... وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) سورة آل عمران: الآية (7).
فإذا اعتززت بالله صاحب هذه الصفات المذكورة اعتزازاً صادقاً والتجأت إليه التجاءً كلِّياً، فهنالك تخلص من شر الوسواس الخناس، وتعيش سعيداً في كنف ربِّك الرحيم، وخالقك الكريم.