لقد ساق لنا الله سبحانه وتعالى في مطلع "سورة البروج" من الآيات الكريمة ما يدلُّنا على عظمته وجلاله لتذعن نفوسنا إليه وتصغي قلوبنا إلى كلامه فقال جلّ شأنه: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}.
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}:
والبروج: جمع برج، وهو الحصن المنيع المتين والبناء المرتفع الظاهر، تقول: بَرَجَ الشيء، أي: ظهر وارتفع. والبرج أيضاً: مجموعة من النجوم ارتبطت ببعضها وتماسكت كما تتماسك حجارة الحصن المنيع.
ومن البروج التي في السماء اثنا عشر برجاً، أي: اثنتا عشرة مجموعة من النجوم وقد سمّوها بحسب شكلها، فهنالك برج الميزان وهو مؤلَّف من نجوم قد أخذت شكل الميزان، وهنالك برج الأسد، وبرج العقرب، إلى غير ذلك... والشمس تحلُّ في مناطق هذه البروج على حسب أشهر السنة الشمسية.
فمن الذي جعل هذا التنظيم وأوجد هذه البروج على هذا الشكل البديع!.
ثم إن كل نجم من نجوم البروج إنما هو منبع ضوئي متَّقد ساطع وقد يكون في بعض الأحيان أعظم من الشمس لكن شدَّة بعده عن الأرض تجعله يبدو صغيراً للعين.
فقد ذكروا أن النجم المسمَّى بقلب العقرب وهو أحد نجوم برج العقرب وكما ورد في علم الفلك أنه أكبر من الأرض بأكثر من سبعين مليوناً من المرات، ولو أنه حلَّ محل الشمس لملأ الفراغ الكائن بين الشمس والأرض ولكانت الأرض نقطة فيه. فما هذه القوة التي تمدُّ هذا النجم بالضياء والنور!. لا بل ما هذه القوة التي تمدُّ سائر النجوم!.
ما هذه القوة التي تربط نجوم كل برج، وإن شئت فقل جميع نجوم السماء بعضها ببعض فإذا هي متماسكة متجاذبة لا يتغيَّر وضعها ولا يختلف نظامها ولا تضعف قوَّتها، فإذا السماء كلها بناء واحد تماسكت نجومه ببعضها متجاذبة مترابطة ترابط حجارة البناء، ولو أنَّ نجماً واحداً منها زال وانعدم لاختلفت مواضع النجوم لا بل لاختلّ نظام السماء كلها ولما سارت الأرض سيرها ولأصبح العالم خراباً ولكان بقاؤه على ما نحن عليه مستحيلاً.
فكل نجم والحالة هذه إنما هو مُحافظ على كتلته وقوَّته الجاذبة منذ أن خلقه الله حتى هذه الساعة ولا يزال على ذلك حتى تقوم الساعة.
فيا ترى من الذي يمدُّ هذه النجوم كلها بتلك القوة؟. فهي مع اشعاعها الدائم منذ ألوف السنين لم تخبُ جذوتها ولم تنطفئ شعلتها ولم تتناقص قوَّتها.
ذلك كله يدلّك على الله صاحب هذه القوة العظيمة اللامتناهية التي تمد هذه النجوم، وتُهيمن على ما في السماء، فإذا هي متماسكة الأجرام مترابطة الأجزاء، وإذا الكون كله جارٍ بنظام لا يغيّره مر العصور وكر الأجيال.
فإذا أنت آمنت بالله المهيمن على السماء ذات البروج، والقائم على هذا الكون فاذكر يوم القيامة ذلك اليوم الذي ستقف فيه بين يدي هذا الخالق العظيم الذي لا يخفى عليه شيء، ولذلك قال تعالى:
{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}:
فاليوم الموعود: هو يوم القيامة الذي وعد الله تعالى به الناس بإعادة خلْقهم، كما وعدهم فيه بالجزاء على أعمالهم.
{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}:
والشاهد: هو الناظر المعاين، تقول: شهد فلان الشيء، أي: عاينه واطَّلع عليه.
والمشهود: هو الشيء الذي نعاينه ونطَّلع عليه. فالشخص الذي يعاين القمر مثلاً ويراه أول الشهر هو شاهد، والقمر مشهود.
ونرجع إلى الآية الكريمة فنقول:
الشاهد هنا: هو الإنسان الذي قام بالعمل وقدَّمه إلى غيره. والمشهود: هو الشخص الذي وقع عليه العمل أو قُدِّم إليه.
فالقاتل مثلاً شاهد، والمقتول الذي وقع عليه القتل مشهود، لأن الرجلين يوم القيامة سيقفان بين يدي رب العالمين ويشهد القاتل ما فعله بالمقتول.
ويكون ما نفهمه من الآيات الكريمة السابقة:
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}:
أي: أنك أيها الإنسان إذا نظرت في السماء ذات البروج وعرفتَ قدرَ خالقها الذي أوجدها وأحكم صنعها فهنالك تؤمن باليوم الآخر، وهو اليوم الموعود فتعلم أنه حق، وأن هذا الخالق العظيم قادر على خلقك ثانية وإعادتك.
كما تحذر عاقبة أعمالك إذ تعلم أن الذي خلق النجوم وجعلها بروجاً وجمعها بقدرته هذا الجمع البديع قادر على أن يجمع الشاهد والمشهود ويوقفهما للحساب بين يديه في ذلك اليوم الموعود الذي لا ريب فيه.