بسم الله الرحمن الرحيم
المؤمن الحقّ في دنياه يستزيد من فعل المعروف والإحسان، ويبذل الوسع في اغتنام الصالحات من الأعمال.
والمعرض عن ربّه الجاهل ينصرف إلى جمع المال، بل أكبر همِّه من دنياه جمع المال وتعداده، ولذا بخَّس سبحانه وتعالى عمله ومسعاه وجهده في أعيننا لِئلا نُقلِّده، ولا ننحط في جمع المال كما انحط ونكون مثله، فقال تعالى في سورة الهمزة:
{الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ}
وأنت ترى من خلال هذه الآية الكريمة استخفافاً ضمنياً بذلك الإنسان الذي يسعى وراء جمع المال.
أما إذا أردت أن تُدرك طرفاً ممَّا تضمَّنته هذه الآية الكريمة فتصوَّر نفسك واقفاً أمام بحر عظيم، ألقت أمواجه على شاطئه بكثير من الأصداف المختلفة الأنواع، كما ألقت على مقربة منها كثيراً من اللآلئ والجواهر النادرة الوجود الباهظة الأثمان، وقد اهتمَّ غلام لا يعرف قيمة اللآلئ والمجوهرات بملءِ جيوبه وما معه من حقائب بالأصداف والحصى فرحاً بها، وهو يحسب أنه يُحسن صنعاً، وكنت أنت تبذل الوسع في نصحه وإرشاده وتطلب إليه أن يكف عن جمع الأصداف، ويغتنم هذه الفرصة الثمينة التي ما يجود الدهر بمثلها فلا يعير إرشادك ونصيحتك اهتماماً والتفاتاً، بل يستمر منهمكاً في جمع الصدف وتعديده على حين تهتم أنت بجمع اللؤلؤ واختيار الكبير الثمين من حبَّاته، أفلا تقول والحالة هذه وأنت ترى ذلك الغلام القليل العقل يفعل ما يفعل: مسكين هذا الغلام إنه يجمع صدفاً!. وفي نفسك ما فيها من احتقار لشأنه وازدراء لهمَّته وعمله.
وكذلك الأمر بالنسبة للمؤمن والمعرض عن ربّه... {الَّذِي جَمَعَ مَالاً...} إنه يجمع مالاً ولم يجمع خيراً.. إنه يجمع مالاً ولم يجمع علماً نافعاً ولا فعل معروف وإحسان ليُقبل به على ربِّه وينال من جنابه تعالى العالي جنات عالية!
أما كلمة { وَعَدَّدَهُ} فتأتي بمعنيين اثنين:
إنها تأتي بمعنى: عَدَّه، أي جعله ذا عددٍ وأحصاه وأخذ يعدُّه ليعرف عدده فرحاً به متطلِّعاً إلى الاستزادة منه.
وتأتي بمعنى آخر وهو أنه: جعله عُدَّة للدهر ووسيلة لتأمين ملاذه وشهواته، فيشتري ما يشتري به من وسائل الترفيه والتَّرف، ويُؤمِّن به ما يؤمِّن من رغائب الحياة الدنيا الدنية.
وهكذا.. فالمعرض عن ربّه همّه من دنياه أن يجمع المال ويجعله عُدَّة ظنّاً منه أنَّه بالمال قد أَمَّن لنفسه الحياة الهنية والسعادة الدنيوية الدائمية، وقد أراد تعالى أن يوقظ هذا الغافل المنهمك في جمع المال، من رقدته وينبِّهه إلى خطئه، فقال تعالى:
{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}
أي: وهل يظن هذا الإنسان أنه سيظل في هذه الحياة خالداً فلا يمدُّ له الفناء يداً، ولا يأتيه الموت أبداً!.
هل يظن أن ماله يدفع عنه ملك الموت إذا جاء لقبض روحه وانتزاعها من جسده؟. هل يظن أن ماله يخلِّده فيما هو فيه من دار واسعة، وأهل وعشيرة وشباب وقوة، ونشاط وصحة، وبسطة في العيش ومتعة، وسلطان ومناصب عالية؟.
أفلا يعلم هذا الإنسان أن المال لا يغني عن المرء شيئاً، ولا يدفع عنه مكروهاً، فكم صارت دور الأغنياء إلى الخراب! وكم نزل أرباب الثراء من الأوج إلى الحضيض! فافتقروا من بعد غنى، وذُلُّوا من بعد عز ومنعة، وصاروا إلى المرض من بعد صحة وقوة.
تُرى ماذا ردَّ المال عن هؤلاء، هل أخلدهم فيما كانوا فيه، وهل خلَّصهم مما صاروا إليه؟.
أيحسب هذا الإنسان الغافل والمرء الجاهل الذي جمع مالاً وعدَّده، أن ماله أخلده في هذه الدنيا وأنه سيبقى على ما هو عليه؟.
ألم يعلم بأن الدنيا دار ممر، وليست دار مقر وأنها متاع فلا يلبث نعيمها وشبابها أن يفنى، ولا بدَّ لسرورها من أن يحول، وأنه مهما طال العمر وامتد الأجل فلا بد من الزوال والموت.
وإذن، فعلامَ يجهد هذا الإنسان ويتعب، ولم يشقى وينصب، أيجمع المال لغيره، ويُغامر في جمعه ثم يتركه ويُخلِّفه وراء ظهره لِيـُحاسب عليه ويُعذَّب؟.
إنه سيترك المال وسيتركه أبناؤه من بعده.. ما لهذا جئت أيها الإنسان إلى هذه الدنيا، وما أخرجك الله إليها لتشقي نفسك، وما وهبك الحياة لتكون همزة لُمزة، ولا ممن جمع مالاً وعدَّده.
كلاَّ أيها الإنسان! ما أخرجك ربكّ إلى الدنيا لتهتم بجمع الدرهم والدينار. وما خلقك فيها لِتُحرِّق بدنياك قلوب الفقراء، وتُحرِّض الناس على الفساد، فارجع عمَّا أنت فيه، وتوقَّ عواقب هذا السير، واحذر أن تُضيِّع عمرك الثمين سُدى وبما لا ينفعك غداً، وإنك إن لم تنتبه من رقدتك وتتلافَ أمرك قبل انتهاء أجلك، فما أتعسك بعد هذه الحياة وما أشقاك!... ما أعظم عذابك غداً وما أشدَّ حسراتك!