بسم الله الرحمن الرحيم
يذكر سبحانه وتعالى في الآيات التالية ما يعرّف الإنسان بذلك اليوم العظيم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين.
لقد بيّن تعالى أن هنالك يوماً يبعث الناس فيه من قبورهم ويقفون للحساب بين يدي ربهم، لقد عرَّفنا أن هنالك نشأة أخرى يُنشئنا الله تعالى فيها كما أنشأنا أوَّل مرّة، ومن مقدمات هذه النشأة الآخرة ومُمهّداتها أن تُزلزل الأرض زلزالها، ولذلك قال تعالى في "سورة الزلزلة":
{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}:
والزلزال هو تلك الرجفة التي تضطرب لها الأرض اضطراباً وتهتز اهتزازاً ثم تتشقق عن الناس الذين ضمَّتهم بين طيّاتها قال تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} سورة قٓ: الآية (44).
وقد جاءت كلمة: (زِلْزَالَهَا) مطلقة غير مقيدة بوصف معين لأن ذلك الزلزال الذي ستزلزله الأرض يوم البعث والنشور ذو أوصاف عديدة فهو ذلك الزلزال النهائي والأخير إذ ليس بعده من زلزال ما دامت الأرض كما ذكر لنا تعالى ستبدل غير الأرض والسموات.
وهو الزلزال الكبير إذ الزلازل التي تحدث الآن إنما هي موضعية لا تتجاوز منطقة صغيرة ورقعة ضيقة من الأرض أما ذلك الزلزال فإنما يشمل الأرض كلها من أقصاها إلى أقصاها فلا يستثني جهة من جهة ولا بقعة من بقاعه.
كما أنه الزلزال الشديد إذ كل زلزال دونه هيّن وكل زلزال دونه خفيف، وهو العظيم لما سيكون وراءه من بعث ونشور ووقوف للحساب بين يدي رب العالمين يوم تعنوا الوجوه وتخشع الأبصار وتجفُ القلوب وتصعق الأنفس المعرضة حينما تنادى للسؤال والجزاء على الأعمال.
وهكذا فلهذا الزلزال أوصاف عدة تشير إليها عدم تقييد اللفظ بواحد منها، وللقرآن الكريم تعبيره عن المراد وإفصاحه عنه أسلوبه العالي وطريقته وللقرآن بلاغته وإعجازه حتى إن الإيجاز في بعض المواضيع ليكون أبلغ أثراً في النفوس وأعظم للحقائق تبليغاً من الإسهاب والإطناب.
وقد أراد تعالى أني يعرِّفنا بما سيتلو ذلك الزلزال وما يعقبه من حوادث فقال تعالى:
{وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا}:
فهي تزلزل ذلك الزلزال ليكون سبباً في إخراجها ما اشتملت عليه من أثقال.
ولكن من هم أثقال الأرض يا ترى وما المراد بكلمة: (أَثْقَالَهَا)؟
الأثقال جمع مفرده ثقل وهو في الأصل الشيء النفيس العظيم الشأن يقال ثقل الأمر أي عظم شأنه قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} سورة الإنسان: الآية (27).
وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..} سورة الأعراف: الآية (187).
وهكذا فأثقال الأرض هم الناس وإن شئت فقل هم بنو آدم الذين تصدوا في عالم الأزل لحمل الأمانة يوم أبت المخلوقات حملها وأشفقن منها قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ..} سورة الأحزاب: الآية (72).
فبنو آدم هم اثقال الأرض وأكرم من حملت على ظهرها إذ أنهم بما عاهدوا الله عليه من لزوم الاستقامة على أمره تعالى ودوام الاستنارة بنوره أضحى لهم من الشأن العالي عند الله ما يجعلهم إن هم وفّوا بذلك العهد أشرف الخلائق كلها وأرفعها عند الله شأناً وأحظاها بفضله نصيباً وأليقها بالتّمتع بمشاهدة جلاله وجماله وأوسعها تحمّلاً واطمئناناً بذلك النور الإلۤهي وفي الحديث القدسي: (ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن).
وأشار تعالى إلى هذه الكرامة التي كرم بها بني الإنسان بقوله الكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} سورة الإسراء: الآية (70).
وهكذا فقد حمل بنو آدم بما عاهدوا الله عليه حملاً ثقيلاً ما تصدى لحمله مخلوق من المخلوقات.
إنه حمل ثقيل بما انطوى عليه من خيرات.
إنه حمل ثقيل بما يعود به على صاحبه من الفضل الإلۤهي والإكرام، ثقيل بما سيناله الذي وفّى بذلك العهد من نعيم مقيم لا حدّ له وانتهاء.
إنه حمل ثقيل خيره عظيم شأنه به أضحى بنو الإنسان أثقال هذه الأرض وأكرم مخلوقاته كما أضحت الأرض بهم أكرم بقاع الكون وأعظمها شأناً.
فإذا الشمس والقمر والكواكب والنجوم، حتى السماء العظيمة بما اشتملت عليها من أجرام لا يحصرها عدد ولا يحيط بعلمها من إنسان، هذه السماء بما فيها إنما هي مسخرة مذللة لخدمة هذه الأرض ومعونتها على القيام بوظيفتها وإذا الأرض من هذا الكون العظيم بمثابة المركز من الدائرة وإذا هي بما حملت على ظهرها أعظم نقطة من هذا الكون وأجل مكان فيه.
ذلك هو أيها الإنسان شأنك العالي وتلك هي مكانتك عند الله. الكون كله مسخر لخدمتك وأنت فيه مكرم عند ربك وجميع ما ذكرناه بهذا الخصوص إن هو إلا طرف مما تشير إليه آية: (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا).
ولكن ماذا يكون عليه حال الإنسان إذا كان يوم البعث والنشور وساعة خروج الناس من القبور؟ لقد بين لنا تعالى ذلك بقوله الكريم:
{وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا}:
إن الإنسان ساعتئذٍ ليستيقظ من نومه ويبعث من مرقده، إنه ليفزع أشد الفزع إذا لم تكن له في دنياه طاعة لربه واستقامة على أوامره، إنه ليهب مذعوراً من قبره فإذا بالبعث الذي كان يعده وهماً وباطلاً حقيقة لا مراء فيها وإذا باليوم الآخر حق لا ريب فيه وإذا الحساب على الجزاء والأعمال واقع لا مرد له وما للظالمين من ولي ولا نصير قال تعالى:
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ، فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} سورة يسٓ: الآية (51-54).