بسم الله الرحمن الرحيم
يريد الله سبحانه وتعالى، في الآيات الكريمة التالية من سورة الطارق، أن يلفت نظر الإنسان إلى نفسه ويعرّفه بأصله ممَّ خُلق، فلعلّه إذا قايس وقارن عرف نفسه وضعفه وعرف خالقه وعظمته، فقال جلّ شأنه:
{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ}:
أي: انظر أيها الإنسان إلى أصلك وتكوينك من أي شيء خُلقت...
{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}:
فمن ذلك الماء المهين خُلقتَ. ومن ذلك الماء خلق الله تعالى ما خلق من الأجهزة والأعضاء، فمنه الدم والعروق والعضلات، ومنه العظام المختلفة الأشكال، ومنه العين والأذن وسائر الحواس...
فمن الذي أودع الابن في صلب أبيه؟. أم من هذا الذي نقله إلى رحم أمه وجعل يرعاه بعين عنايته ويربِّيه؟.
من الذي خلق النطفة علقة، ثم خلق العلقة مضغة، ثم خلق المضغة عظاماً، فكسا العظام لحماً، وجعل لهذا المخلوق الجديد معدة وأمعاء وكبداً وقلباً؟. من الذي جعل له أعصاباً وعروقاً وأجهزة وأعضاء مناسبة؟. من الذي ركَّب الإنسان هذا التركيب البديع؟. أفنطفة من ماء مهين، أفجرثوم صغير يستطيع أن ينقلب بنفسه ويتطوّر فيصبح إنساناً سوياً دون أن يربّيه مربٍّ ويعنى فيه؟. أم هل خلقك أبوك؟.أم خلقتك أمك؟. أم أنّ خالقاً عظيماً خلقك وعُني بك حتى صرت بهذا الحال الذي أنت عليه؟. أفبعد أن بلَغتَ أشدَّك وصرت رجلاً نسيت خالقك وإحسانه إليك؟.
أفلا تفكِّر في أصلك ممَّ خُلقت، وقد أتى عليك حينٌ من الدهر لم تكن شيئاً مذكوراً؟.
أفلا تذكر ذلك اليوم الذي كنت فيه مخلوقاً ضعيفاً وجرثوماً ضئيلاً!.
أفلا تنظر إلى نفسك يوم كنت تسبح في النطفة مع ملايين الملايين من الجراثيم، ولا تستطيع أن تراك يومئذ لِدقَّتك العينُ!.أفلا تثوب إلى رشدك فتذكر تلك القدرة التي خلقتك، واليد الرحيمة الحكيمة التي عُنيت بك وربَّتك، فتعلم أن لك خالقاً عظيماً وإلٓهاً قديراً ومربّياً رحيماً.
أفلا تفكر في ذلك كله فتهتدي إلى خالقك.
وقد أراد تعالى أن يغضَّ من كبرياء هذا الإنسان فقال تعالى:
{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}:
والترائب: جمع تريبة، والمراد بالترائب: الأنفس الكثيرة التي يكاد عددها لا يُحصى، فهي في كثرة عددها كالترائب، فالإنسان في صلب أبيه كان مجموعاً مع ملايين الملايين من الأنفس التي ستخرج إلى هذا الوجود، ما أضعف شأنك يومئذ وما أصغرك، وما أعظم هذا الخالق الذي خلقك، ثم ما أكبر فضله وحنانه عليك إذْ جعلك على هذه الصورة الكاملة والخلقة الحسنة، أفيصعب عليه بعد أن عرفت قدرته وعظمته أن يُرجعك بعد موتك ويخلقك ثانية، كما بدأك أول مرة!. لا شك أنك إذا نظرت مفكِّراً تُوقن بذلك البعث وتراه على الله يسيراً هيِّناً ولذلك قال تعالى:
{إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}:
أي: الذي خلق السماء وما فيها والذي خلقك أيها الإنسان من ماء دافق وأخرجك من بين الصلب والترائب لا يصعب عليه إذا أنت فنيت وصرت تراباً أن يُعيد خلقك، فهو عليه تعالى يسير وهو على رجعك لقادر، ثم بيَّن تعالى ما يكون عليه حال الناس في ذلك اليوم الذي يرجع الإنسان فيه إلى ربه. فقال تعالى:
{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}:
وتُبلى: مأخوذة من بلا، بمعنى: اختبر وكشف الحقيقة. تقول: بلا القائد الجنود في الرمي، أي: اختبر معرفتهم وكشف حال كلٍّ منهم، وبلا المعلم التلاميذ، أي: امتحنهم وتعرَّف إلى مَبلغ ما وعاه كل منهم من درسه، ومنه أبلى الرجل في الحرب بلاءً حسناً، أي: أظهر صدقه وإخلاصه في الدفاع فعرف الناس طويَّته وما استكنَّ في نفسه. وأما كلمة (السَّرَائِرُ) فهي جمع سريرة، والسريرة: هي السرُّ الذي يكتمه الإنسان ويُخفيه في نفسه ولا يريد أن يطَّلع عليه أحد، ومنه يُقال: فلان طيِّب السريرة، أي: صافي النية.
ويكون ما نفهمه من هذه الآية الكريمة: إنه في ذلك اليوم الذي يُنشئ الله الإنسان فيه النشأة الآخرة تظهر حقائق الأنفس، ويصبح سر كل امرئ بادياً ظاهراً، وهنالك يرى الناس العدالة الإلٓهية، ويعلمون أن الله تعالى لا يَظْلم مثقال ذرّة، فلا بدّ إذاً لكل امرئ من أن تظهر نواياه وسريرته، وسيعود على المحسن إحسانه، ولا بد للمسيء من أن يلقى إساءته، وكل امرئ بما كسب رهين.
{فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ}:
أي: أنه ليس يومئذ للمجرم من بعد أن رأى مرضه، وانكشفت له علله وأوجاعه من قوة يدفع بها المداواة التي ستكون دواءً لعلله وأمراضه ولا ناصر ينصره ويخلِّصه منها، إذ أنه يرى ضرورة العذاب ويجد أنه في أشدِّ الحاجة إليه، ومثل الإنسان الذي أساء في دنياه يومئذ كمثل جزّار كان يفري اللحم بسكينه الحادّة وفيما هو على ذلك الحال وقعت منه التفاتة إلى الطريق وغفل عن أنه في أشد ما يكون حاجة للانتباه لنفسه فقطع اصبعه وجعل الدم ينزف ويفيض من جرحه، أفتراه إذا صار بين أيدي الطبيب الذي يسعفه يسعى في التخلُّص من بين يديه أم تظن أن أحداً من أهله يتقدَّم فيشفع له عند الطبيب ويرجوه أن يكفَّ عن مداواته وإنقاذه مما هو فيه ؛ ذلك هو مثل الإنسان المجرم يوم القيامة بين يدي ربه، فلا قوَّة له ولا ناصر ينصره، إذ الحكمة الإلٓهية تقضي بمعالجته ومداواته في النار رحمة ورأفة من الله به.
فسبحانك اللهم ما أرحمك وأكرمك، وتعساً لك أيها الإنسان المعرض عن ربه والظالم لنفسه.