بسم الله الرحمن الرحيم
يبتدئ سبحانه وتعالى الكثير من سور القرآن الكريم بذكر طائفة من الآيات الكونية، وما المراد من ذكر آيات الكون إلا التعريف بما فيها من العظمة والجلال، ودقة الصنع والإحكام ليتعرَّف الإنسان من وراء الكون إلى الخالق المكوِّن، فإن دقّة الصنع تدل على الصانع، وجلال الخلق وما فيه من إبداع يعرِّف بالخالق المبدع، وإنه ما من أحد بمستطيع أن يدرك شيئاً من جلال الله تعالى، وعظيم قدرته، ولا سبيل إلى معرفة الله سبحانه ورؤية طرف من أسمائه إلا من خلال آياته تعالى والنظر في مخلوقاته. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ...} سورة النحل: الآية (104).
على ضوء هذه الآية السابقة نستطيع أن ندرك طرفاً من ذلك المعنى الذي ساقه الله تعالى لنا في مطلع سورة العاديات الكريمة إذ قال:
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا}
لقد أشار لنا تعالى بهذه الآيات الكريمة إلى بعض أنظمة الكون وقوانينه؛ لقد ذكر لنا طائفة من العوامل التي يصرِّفها سبحانه فتعمل في إطار حكيم من التنظيم والتسيير الإلۤهي البديع فيتأمَّن لنا بواسطتها رزقنا، ويتهيّأ لنا طعامنا وشرابنا، ويحيا زرعنا، ونأكل وتأكل أنعامنا.
لقد أراد تعالى أن يعرِّفنا بذلك النظام الذي يراه كل إنسان حيث كان وفي أي عصر وجد. إنها تشير إلى النظام الذي بموجبه تتنظَّم الأمطار، وتتوفر لنا المياه فتفيض بها العيون والأنهار، وتمتلئ بها بطون الآبار.
وهكذا فكلمة: (والعاديات): لا تبغي الكلام عن خيول وأفراس، وليس يعني ما يتلوها من الآيات وصفاً لمعركة واقتحام صفوف وفرسان، ولا شرراً منبعثاً من حوافر هذه الخيول، وقد أغارت على العدو غداة النهار، بل ولا عجاجاً ثائراً في ميادين القتال.
إنما تريد لفت نظر الإنسان، وتعريفه بذلك النظام لا بل بذلك المربِّي تبارك سبحانه وتعالى: القائم على هذا الكون والساهرة عنايته عليه شاملة سائر المخلوقات بفيض من الفضل والرحمة والإحسان.
وقد بدأت السورة الكريمة بذكر الرياح وقد هبَّت ثائرة من مكانها لأن الرياح هي التي تثير السحاب وهي إحدى العوامل الرئيسية في هذا النظام الذي ذكرناه.
قال تعالى:
{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً..} سورة الروم: الآية (48).
وقال تعالى:
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} سورة الأعراف: الآية (57).
وذلك أيضاً ما عبَّرت عنه الآية الكريمة في قوله تعالى: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا).
فالعاديات: جمع عادية، مأخوذة من العَدْو، وهو الجري والركض، وهي هنا تعني الرياح.
وقد جاء لفظ العاديات في صيغة الجمع ليدل على الرياح المختلفة الأنواع المتعددة المصادر والجهات، الجارية من الجو في مختلف الطبقات، وقد سبقتها الواو، فقال تعالى: (وَالْعَادِيَاتِ) تعريفاً لك بعظيم شأنها وجليل فائدتها وبديع تصريفها، وكبير أعمالها، هذه الواو وقد سبقت كلمة (وَالْعَادِيَاتِ) تقول:
هلّا فكَّرت أيها الإنسان بالعاديات، هلّا نظرت إليها وقد هبَّت تارة شرقية باردة تكثِّف الجو وتبرِّده وتهيِّئه لنزول الأمطار، هلَّا فكَّرت بها وقد هبَّت غربية مارة على البحار حاملة بخار الماء، هلَّا دقَّقت في أنواعها واختلاف جريها في طبقات الجو والسماء، فمنها الذي يعمل عالياً بعيداً، ومنها الذي يجري مسامتاً الأرض قريباً.
هلا قلت في نفسك من الذي يُرسل الرياح فيبعثها من مكامنها وقد كانت راقدة هادئة لا حراك بها، فإذا هي الآن تتوالى موجاتها، وتتعاقب حركاتها فتثير سحاباً وتسوقه في الأجواء.
ذلك طرف مما نفهمه من كلمة: (وَالْعَادِيَاتِ)، ولا أريد أن أحدّثك عمَّا تولِّده باحتكاكها بالأرض من كهربائيات ومغنطيسيات. بل أريد منك أن تفكِّر لتتعرَّف إلى ذلك المربي الذي له الخلق والأمر الذي هو المدبِّر والمتصرّف.
أما كلمة: (ضَبْحًا) فإنما تشير إلى أصوات هذه الرياح المنبعثة عنها خلال جريها واحتكاكها بما تواجهه في طريقها، إذ الضبح في الأصل هو ذلك الصوت الذي تسمعه من الخيل أثناء جريها وعَدْوِها، ومن الأرنب والثعلب وقد بعثه الهواء المنطلق من صدرها، فهذا النوع من الأصوات، المتشابه في إيقاعه الذي يكاد يكون متماثلاً في طبقاته من حيث علوِّه وانخفاضه، يُسمَّى ضبحاً.
وما المراد بالضبح هنا مجرّد صوت الرياح، بل المراد والمقصود لفت نظرك وبعث تفكيرك إلى تواتر موجات هذه الرياح، وما ينشأ عن هذه العاديات من أعمال، وما تقوم به من مهمّات، فتتعرَّف من وراء ذلك إلى قدرة ربِّك وعناية خالقك ورحمته بك.
ثم أتبع تعالى ذكر الرياح بذكر السحب المتراكمة في السماء، ولفت نظرنا إلى ما ينبعث عنها من بروق وكهربة ومؤثِّرات فقال تعالى:
(فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا)
وقد جاءت النار مرتبطة بكلمة فالموريات إشارة إلى الترتيب والتعقيب، وبيان أثر الرياح القريب، فما أن تهب الرياح تضبح ضبحاً حتى تتلوها السحب تتقدَّم متتالية كأنها قطع الجيش الجرار، قطعة منها تتبع قطعة، وكتيبة تلحق بكتيبة، فإذا هي تسير وفق نظام محكم وفي اتجاه معين.
وقد وصف تعالى السحب الممطرة بكلمة: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا)، إذ الموريات: جمع مورية وهي السحابة المخرجة الشرر أو النار، يُقال: أورى فلان النار، أي: أشعلها.
والقدح: هو الصدمة التي يكون بسببها الشرر أو النار.
فهذه الغيوم التي هيّجتها وساقتها الرياح تجدها تحتك بعضها ببعض، يتولّد من احتكاكها شرارات كهربائية يضيء برقها ولمعانها الآفاق، ثم لا تلبث أن تهطل الأمطار، وقد حملت بين طيّاتها بسبب هذه البروق المواد العظيمة الأثر في نمو النبات.
فهلّا قلت في نفسك أيها الإنسان، من الذي شحن هذه الغيوم بتلك الشحنة العظيمة من الطاقة، وإذا كان التجاذب بين قطع الغيوم لا يتم كما يقول العلم الحديث إلا إذا كانت كهربائياتها مختلفة النوع بين الموجبة والسالبة، فمن الذي جعل هذه الكهربائيات نوعين مختلفين فألَّف بها بين قطع الغمام فلا تلبث أن تغيث الأرض بالغمام؟ هلّا فكّرت بهذا وقد لفت القرآن الكريم نظرك إليه.
قال تعالى:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ..} سورة النور: الآية (43).
وقال تعالى:
{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ، فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} سورة الروم: الآية (48-50).
هذا وقد عبَّر تعالى عن الأمطار المنصبة من السماء بكلمة:
(فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا)
يريد تعالى بذلك أن يصف لك كيفية انصباب الأمطار وما ينشأ عنها من النفع والخيرات. وبشيء من التفصيل نقول: المغيرات: جمع مغيرة وهي المنصبة متدافقة متغلغلة في الأرض، يُقال أغار فلان على العدو إذا حمل عليه، وغار الماء إذا ذهب متغلغلاً فيها.
أما كلمة (صُبْحًا): فإنما تريد أن تبيّن لك أثر هذه الأمطار في الأرض وأن تصف لك خيرها الظاهر البيّن للناس، يُقال أصبح الحق: أي ظهر واستبان، وأصبح الصباح والصبح، أي: أضاء وكشف بنوره الظلام.
وهكذا فقد وردت كلمة صبحاً بطريقة المجاز والتشبيه البليغ لتبيِّن لك حال هذا الماء النازل من السماء من إغاثته الأرض وظهور نفعه للخلق وكأن كلمة: (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) تقول:
هلّا نظرت أيها الإنسان في هذه الأمطار وقد أغارت على الأرض بماء هو الصبح من إخراجه الزرع وإنباته الحب وإظهاره ما في الأرض من الخيرات.
قال تعالى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} سورة فصلت: الآية (39).
وقال تعالى:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} سورة الحج: الآية (63).