بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
سورة العصر
العصر: هو تلك الفترة من الزمن التي عاش خلالها امرؤ، فكانت له فيها أعمال تميّزه عمن عاصره، ومآثر باقية فاق بها غيره، وكان ذلك سبباً في تخليد اسمه ونسبة العصر إليه من دون الناس الذين عاشوا معه.
وحيث أن عصر رسول الله عليه الصلاة والسلام كان للبشرية كلها خير عصر وأجلَّ زمان، وبما أن الكمال الإنساني الذي ظهر من ذلك الإنسان العظيم طوال حياته لم يستطع أن يماثله فيه أحد من المخلوقات منذ أن أوجد الله تعالى البشرية على سطح هذه الكرة إلى نهاية الدوران، لذا أراد تعالى أن يعرِّف رسوله الكريم بذلك المقام الرفيع الذي ما ناله أحد مثله في العالمين، وأن يعرِّفنا نحن بني الإنسان أن عصر رسول الله أشرف وأجلَّ عصر، فقال تعالى:
{وَالْعَصْرِ}:
أي: وعصرك السامي المليء بجلائل الأعمال والبطولات المشحون بالجهاد الإنساني المقدَّس والتضحيات، المتميِّز على سائر العصور بالفضيلة التي غرست في القلوب أصولها، المشرق بالإيمان الذي هديت الناس إليه فكانوا به سادة الأمم وقادتها، الزاخر بالمعرفة بالله التي لا يطمئن القلب إلا بها، ولا تسعد البشرية إلا إذا حصلت عليها.
وهكذا، عدِّد ما شئت من أوصاف عالية لهذا العصر الذي كان على الدهر كله مناراً يضيء للأجيال طريقها إلى السعادة، ونبراساً يهدي البشرية إلى ما تصبو إليه من كمال وفضيلة وحياة طيبة تجد قلمك عاجزاً، ولسانك قاصراً عن بيان ما لهاذا العصر من سمو، وما انطوى عليه من أعمال جليلة، وما أنت بمستطيع وما أحد في العالمين بمستطيع أن يحيط وصفاً بذلك العصر العالي الرفيع لكن كلّاً يدرك من عظمة ذلك العصر بحسب ما نال من إيمان، وبما نال من الكمال.
لقد جاء ﷺ إلى هذه الدنيا فوجه قلوباً متنافرة، وأمماً متباغضة، وإنسانية معذبة، غارقة في الجهالات، منغمسة في الفساد، تائهة في الضلالات فما زال جاهداً حتى جعل هذا الإنسان يزهد بالكدرة لقاء ما وصل إليه من جوهرة بها سعادة الدنيا والآخرة، وما زال جاهداً حتى جعل من أولئك الأفراد المتنازعين المتفرّقين أمة قوية تسوس العالم، وتأخذ بيد الإنسانية من الضلال إلى الهدى فإذا بالأجيال تسير وراء الأجيال خارجة من الظلمات إلى النور، وإذا بما وصل إلينا ونحن في هذا العصر البعيد المدى قبس من نور ذلك العصر. وما أراني مهما ذكرت ووصفت بمبيّن ذرّة من بحر من ميّزات ذلك العصر، وكفاه شرفاً أن الله تعالى خصَّه بالذكر في محكم كتابه الكريم تتجدد ذكراه كلما تلاه تال، وتشرفت به مسامع إنسان، إذ قال تعالى: (وَالْعَصْرِ).
لقد ضرب ﷺ بما ظهر منه في حياته كلها من أعمال عظيمة، وكمالات إنسانية المثل الأعلى لبني الإنسان كافّة، فعرَّف الإنسان لماذا جاء إلى هذه الدنيا، وما هي المهمة الملقاة على عاتقه خلال وجوده فيها، وأراه بماذا يجب أن يقضي عمره، وبم يجب أن يغتنم هذه الفترة الوجيزة، والفرصة الثمينة ليفوز بسعادة الدنيا والآخرة.
إن لي عصراً، وإن لك لعصراً، ولكل امرئ في هذه الحياة عصر، ولكن مَنْ عصره مثل عصر رسول الله عليه الصلاة والسلام عصر الأبطال، وأشرف العصور على مرِّ الدهور والأجيال. فإذا ذكرت عصر رسول الله عليه الصلاة والسلام ذكرت البطولة والشجاعة، والتضحية الرائعة.
وإذا ذكرت عصر رسول الله ذكرت الرأفة والرحمة والحنان، وتمثَّل لك النبل والوفاء والمروءة والإيثار، وإذا ذكرت عصر رسول الله ذكرت العلم والحكمة وبدا لك العطف واللطف، والعدل والإحسان، لا بل رأيت الفضائل كلها ماثلةً بأبهى مظاهرها وأروع وأجلى مشاهدها في ذلك الزمان المشرق على جميع الأزمان، وعلمت أن الإنسان ما جاء إلى هذه الدنيا ليلهو ويلعب، ويضيّع العمر في جمع الدرهم والدينار، بل الإنسان الحق هو الذي يكتسب عمره الثمين كما اكتسبه أشرف الخلق وسيد العالمين.
هذا، وإذا كانت كلمة والعصر بحسب ما ذكرناه وبيَّناه قد حرَّضت هذا الإنسان وحضَّته على اغتنام هذه الحياة أسوة برسول الله عليه الصلاة والسلام، فهي إلى جانب ذلك تريد أن تسمو بنفوسنا وتدنيها من نفس رسول الله، تلك النفس العالية السابحة في بحار العلم بالله، الفانية في محبة الله فلعلنا إذا نحن وقفنا في صلاتنا وسمعنا النداء الإلۤهي يخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام بكلمة: (وَالْعَصْرِ): يحصل في نفوسنا ذلك التعظيم والتوقير لذلك الرسول الكريم، وهنالك ترتبط نفوسها بنفس رسول الله العالية برباط المحبة والتقدير، وتعرج بصحبتها في معارج القدس وتدخل بمعيّتها على الله، وهنالك تشهد من الرحمة والحنان الإلۤهي، وترتشف من ذلك الكمال ما يجعلها تسمو وتتسامى وتصل إلى حال ٍ عالٍ رفيع ما كانت لتصل لولا تلك الصحبة النفسية، ولولا ذلك الارتباط.
فإذا ما قرات كلمة والعصر فاذكر عصر رسول الله ﷺ، ذلك العصر العالي الرفيع، وليكن لك من ذلك الإنسان العظيم المثل الأعلى في اغتنام هذه الفرصة من الحياة، وعزِّر ووقِّر رسول الله عليه الصلاة والسلام، وليكن في نفسك له ذلك التعظيم والتقدير، وهنالك تدخل بمعيّته على الله فتسمو نفسك كما تسامت نفوس الصحابة الكرام الذين وقَّروا رسول الله وتفانوا في محبته، فما كان أحدهم لينصرف عن صاحبه حتى يتلوا عليه سورة العصر، فلا يفترقان إلا من بعد تعظيم وتقدير لذلك الرسول الكريم، وينقلبان ونفس كل منهما هائجة بمحبة رسول الله، سابحة بصحبة تلك النفس الزكية الطاهرة في بحار الحب والمعرفة بالله.
على أنك أيها الإنسان إذا أنت تنكَّبت الطريق التي سلكها هذا السيد العظيم والرسول الكريم، واتبعت هواك فلم تكتسب هذا العمر الثمين ولم تقتف أثر رسول الله عليه الصلاة والسلام كما اقتفاه صحابته الكرام، بل لهوت بجمع الدرهم والدينار فقد خسرت خسراناً عظيماً وضيّعت على نفسك خيراً جسيماً، وذلك ما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى:
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}:
ولعلّك تقول: أي إنسان تعني هذه الآية الكريمة وإلى أي إنسان تشير؟ فأقول:
إنها تعني كل فرد منّا، نحن بني الإنسان، فأنا وأنت لا بل كل واحد منَّا مشمول ومعنيُّ بهذا الخطاب، لأن الله تعالى ما جعل السعادة وقفاً على أناس دون أناس وما خص بفضله ورحمته فريقاً دون آخرين، بل إن رحمته تعالى عامّة شاملة يختصّ بها كلّ طالب ومريد، قال تعالى:
{..وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} سورة الأعراف: الآية (156).
وهكذا فالله تعالى يريد بكلمة: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ): أن يحذر بني الإنسان كافّة من تضييع هذا العمر، وأن يستحثَّ هممنا إلى اغتنام هذه الفترة الوجيزة من الحياة التي عرف قيمتها أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن تابعهم بإحسان.
نعم، إن الإنسان لفي خسر، لأن الإنسان ذلك المخلوق الذي كرَّمه الله تعالى، ووهبه من الأهلية والاستعداد ما يستطيع به أن يتفوَّق ويتسنَّم ذلك المقام الرفيع الذي يسمو به على سائر المخلوقات، إذا هو لم يُفد من هذه الأهلية وذلك الاستعداد بل ظلّ مستغرقاً في دنياه لاحقاً لشهواته، منحطاً إليها انحطاط الحيوان إلى أن يوافيه الأجل، وتنقضي مرحلة الحياة، فهنالك يندم أشد الندم، ويرى كم فرّط وكم ضيّع على نفسه من خيرات، وما تزال الحسرات تحرق نفسه حتى يوم البعث والنشور.
قال تعالى:
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} سورة السجدة: الآية (12).
وقال تعالى:
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} سورة غافر: الآية (18).
إنه من عطفه تعالى وحنانه علينا يحذِّرنا من هذه الوقفة المخزية غداً بين يديه، ويوقِّينا من تلك الحسرة التي تنتاب يومئذ قلوب المجرمين.
إنه يذكّرنا، فيقول سبحانه: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) لئلا نضيّع العمر ونقع في ذلك الخسران.