إن اسمه سبحانه وتعالى (الرحمن) إنما يشير إلى أن الله تعالى ذو رحمة وحنان بشتى معاملاته لك مهما تلوّنت، كذا وسعت رحمته كل شيء، فما من مخلوق إلا وقد غمرته هذه الذات العلية بفيض من الرحمة، فهي ترعاه بحنانها حيثما حل وأنّى ارتحل وسار. قال تعالى: {..وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ..} من تشديد ورخاء.
الرحمن: صيغة مبالغة لاسم الفاعل المشتق من فعل الرحمة على وزن فعَّال. يعرف القرآن من عرف أن الله مسير هذا الكون وما فيه بالرحمة، من شاهد صفة الرحمة من الله، انطبعت بقلبه معاني القرآن كما بالآية: {الرَّحْمَنُ (1).. عَلَّمَ الْقُرْآنَ} هنا: {..وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ..}
أرأيت إلى الأمهات يَرْعَين صغارهم بعطفهن، وتذوب قلوبهم رحمة، وتفيض نفوسهم حناناً يغمرن به أولادهن، فلو أن ما اشتملت عليه قلوب الأمهات كلهن من الرحمة والعطف والرأفة والحنان، لو أن ذلك كله جُمع بعضه إلى بعض، ثم ضاعفته ملايين الملايين من المرات، لما بلغ ذرَّة واحدة من رحمته تعالى التي لديه عليك، لا بل على أي مخلوق من المخلوقات، وقد سخَّر تعالى المخلوقات والأنعام لك، فما أرفع منزلتك عند الله وأنت لا تدري!...
فما من مخلوق إلا وهو مغمور بحنان إلهي ورأفة ورحمة لا حدَّ لها، وما ذلك كله إلا أثر من آثار اسمه تعالى (الرَّحْمنِ)...
تضع نبتة في أصيص ، أو تغرس غرسة، أو تلصق رقعة تطعيم في شجرة، فإذا ما نعشت النبتة، وأنجبت الغرسة، وبرعمت الرقعة، غمرتها نفسك بالرعاية، وأحاط بها قلبك بفيض من العطف والعناية، تتألم ألماً كبيراً ممن يلمسها بسوء أو أذى، ذلك شعورك نحو النبتة أو الغرسة، وأعظم منه شعور الأم والأب نحو صغيرهما، يتبعانه بنظرهما أينما سار، ويرعيانه بعطفهما حيثما كان، يفرحان لفرحه، ويحزنان لحزنه، ويصيبهما الهم والغم من أجله، وقد يحل بهما المرض لمرضه، وما ذاك كله إلا أثر من آثار حنانهما وعطفهما، مع أن الأم والأب ما خلقا صغيرهما وما أبدعاه صنعاً بيديهما، بل ربياه صغيراً ورعياه، فما بالك بحنان تلك الذات العلية التي خلقتك بيدها، وخلقت لك السمع والبصر والذوق وفطرتك، وما هي يا ترى نسبة حنانها عليك، وما هو مبلغ رحمتها بك، أيقاس ذلك برحمة أم أو أب؟. أليست رحمة كافة الأمهات أو الآباء للبشر وللأنعام والطيور والحيوانات كلها من الله، بل هي ذرَّات من رحمة الرحمن؟. وهل تقسو تلك الذات العلية عليك؟. وما خلقت الكون كله إلا من أجلك، وتأميناً لراحتك وسعادتك.
أتظن أن المريض يمرض، وأن الغني يفتقر، وأن الهم والغم ينزل، وأن المصائب والمكاره تلم، وأن ذلك كله يحل وتلك الذات العلية، "الحضرة الإلٓهية" في هذه الساعات العصيبة قد تحولت رحمتها عن هؤلاء ونقصت بعض الشيء عن هذا المخلوق؟!. لا... لا، كل ذلك لم يكن، والرحمة الإلٓهية هيَ هيَ، لا تتحول ولا تنفصل، لكن الله تعالى يعامل كلاً بما يناسب، ويسوق له من العلاجات ما يلزم، وحسبك أن تنظر إلى معاملة الأم والأب لطفلهما حينما يمرض، إنهما يشددان عليه في تطبيق ما يلزمه من حمية وعلاج، وما يشددان عليه هذا التشديد، إلا لفرط رحمتهما به، وشديد حنانهما عليه.
يشددان عليه ليدفعا عنه ما ألمَّ به من مرض، وينقلاه من حالِ التعاسة والشقاء، إلى السعادة والهناء. وحسبك أن تنظر في هذا، وهو تعالى من رحمته، وضع الرحمة والحنان بقلبهما عليك، لا على سواك من أطفال الغير، لتدرك طرفاً من رحمة الله تعالى بك حينما يسوق ما يسوق، من شدائد وآلام. إنه يسوق لك ذلك، دواءً لنفسك، وعلاجاً لما بها من علل وأدران، وما ذلك كله إلا أثر من آثار رحمته تعالى بك وحنانه عليك، فغيِّر ما بنفسك من سوء واستقم، يغيّر اللهُ عليك. وهكذا فالله تعالى باسمه الرحمن، يغمر الكون كله، من أصغر مخلوق إلى أعظم كائن في الحياة يغمرهم جميعاً برحمته، فما ينفك مشرفاً عليهم باسم (الرَّحْمنِ).. في ليلٍ أو نهار، في عسر أو يسر، في دنيا أو آخرة، في جنة أو نار.
ولبعض التقريب أقول:
إن كل ما قدمته لك عن اسمه تعالى الرحمن إن هو إلا تعريف بطرف يسير من رحمته تعالى بخلقه، وسأضرب لك مثلاً يقرِّب لك الحقيقة أيضاً بعض التقريب، وإن كانت الحقيقة أبعد من أن تنال بمثال، بل يلزم أن تُشهد شهوداً ليتيقَّن الإنسان، ولا يتم ذلك إلا بالإيمان.
انظر إلى الشمس ترسل بأشعتها إلى هذه الأرض وما عليها من سهول وجبال، من جزر وبحار، من نباتات وأشجار.
ثم انظر إلى شجرة واحدة، لا بل إلى ورقة من أوراقها وقد غمرتها الشمس بأشعتها، ترى ما مقدار ما اكتسبت هذه الورقة الواحدة من أشعة الشمس؟. وما هي نسبة ذلك إلى الشمس ذاتها؟.
كم في الكون من أشياء، وكم فيه من أشجار، وكم فيه من أوراق؟. كل شجرة لا بل كل ورقة تنال من إشعاع الشمس حظاً يسيراً.
وعطاء الشمس أعظم بكثير مما نالته شجرة، وعطاء الشمس أعظم بكثير مما نالته ورقة، ولعمري ذلك جزء يسير لا يقارن.
وما ضربت لك هذا المثال إلا لأعرِّفك بما نالته كلُّ أمٍّ من الله تعالى، من قدر يسير من رحمة.
ورحمته جل جلاله أعظمُ مما عرَّفتك به عن طريق هذا المثال بما لا يقدَّر وما لا يمكن أن يتصوره إنسان، وحسبك أن تُقبل على الله لتدرك طرفاً من رحمته تعالى بخلقه، وتذوق ذلك ذوقاً.. والشهود بعدها أعظم فبه اليقين برب اليقين.. وليس البيان كالعيان.