{الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} سورة الفاتحة، الآية 2.
لفهم هذه الآية الكريمة نشرح كل كلمة من كلماتها، وعند ذلك نستطيع فهم معناها بمجملها. ولذلك نقول:
الحمد: هو ما ينبعث في النفس من تقدير المحسن، وما ينشأ فيها من الثناء على المنعم المتفضِّل، فالامتنان الذي نقابل به من ساق لنا الخير حمدٌ، والثناء الذي نرجع به على من أوْلانا النعمة وصدر عنه الخير حمد.
والحمد إذن حالة نفسية، تقوم في النفس تجاه المحسن المتفضِّل عندما نرى فضله وإحسانه، ولا يُحمد الشيء إلَّا إذا كان جامعاً لكل خير من كل وجه، وخالياً من كل شائبة ونقص.
فلِمَن الحمد يا تُرى؟. ومن هو الذي يستحق الحمد فيحمده كل شخص، لا بل كل موجود ونفس، على كل عمل وفعل؟.
لقد تبيَّن على لسان رسول الله ﷺ أن: {الْحَمْدُ للّهِ} وحده، فهو خالقنا ورازقنا، ورازق الخلائق كلها، وله المنَّة والفضل، على نِعَم السمع والذوق والبصر والأمطار والثمار والطعام والشراب، والحياة والمشاعر والمسرَّات والعلاجات، وما ينتج عنها من خيرات.
{للّهِ}: وكلمة (لِلَّهِ).. مأخوذة من الإلٓه، والإلٓه: هو الذي يؤول إليه أمر كل ما في الكون، من حيث رزقه ومعاشه وإمداده بالحياة, وقيامه وتسييره في أعماله، ومنحه ما يتطلَّبه في حياته بما يتناسب وكمال كافة المخلوقات، فمن كمال لكمال أوسع، وليس بالإمكان أبدع مما كان.. أي: ليس بإمكان أحد من البشر، أن يُبدع مثل هذا الإبداع أبداً. فسبحانك ربِّي ما أعظم كمالاتك، ولا إلٓه لي وللكائنات كلها سواك. فرسول الله ﷺ بالصلاة يريد أن يعرِّفك، بأنه تعالى يُحمد على تسييره لك ولهذا الكون، فما من حادثة تحدث، ولا مصيبة أو ضائقة تلم وتنزل، ولا عسر أو يسر، ولا مرض أو شفاء، وما من همٍّ أو غم، ولا نصرة أو خذلان، وما من واقع يقع في هذا الكون، من عطاء ورخاء، أو علاجٍ، إلَّا وهو منه تعالى محض الخير والفضل والإحسان، فهو سبحانه يُحمد على كل حال، وهو تعالى يستحق الحمد، وله الحمد في كل ما يسوقه لهذه المخلوقات، أدرك طرفاً من ذلك أولو العلم والبصائر، ولو انكشف الغطاء، لما اخترت إلَّا ما اختاره الله لك وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وكيف لا يُحمد الله تعالى على ما يسوقه لعباده، وهو الرَّحمن الرَّحيم؟.
وهل يُعاملك الرَّحمن إلَّا بما فيه السعادة لك، وهل يسوق لك هذا الرب الرحيم إلَّا ما فيه خيرك؟.
وكلمة {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}يبيِّنها لك رسول الله ﷺ شهوداً يا مؤمن، على أنها تنطوي تحتها معان جمَّة، فهي تعرِّفنا أن الله تعالى "رب" وأن هذه الربوبية عامة، فهو سبحانه رب العالمين، ثم هي تعرِّفنا أيضاً بأنه تعالى هو المسيِّر لأمور هذا الكون، وهي تعرِّفنا أخيراً بأنه يُحمد على تسييره، وأن الحمد مقصور عليه، فله الحمد وحده.
وبصورة عامة إنما تعرِّفنا بأن ربّ العالمين المسيِّر لما في الكون، من إنسان وحيوان وأنعام أو أي شيء، إنما يُحمد على كل حال، وأن كل فعله وسائر ما يسوقه لمخلوقاته، فضل وإحسان وخير.
معنى الرب
الرب: هو المربِّي، مأخوذة من: ربَّى. وأصل الفعل ربا، بمعنى: زكا ونما، وكما تقول: ربا الزرع، أي: نما. وتشدِّد الباء فتقول: ربَّى فلان الغنمة، أي: خصَّها بالعناية، فجعلها بسبب هذه العناية تنمو وتستمر في الحياة، فأمدها بما يلزمها من مأكل منوَّع مغذٍّ، وشرب موافق روي، وعني بإيوائها في مأوى خاص مهوَّى، وأسامها في الأرض، ترعى في الفلاة متعرضة لنور الشمس والهواء النقي. وبصورة عامة قدَّم لها سائر ما يتوقَّف عليه دوام وجودها وحياتها واستمرار نمائها.
فالتربية إذاً: تعني الإمداد بما يلزم لدوام الحياة، واستمرار الوجود والنماء، وقد أصبح من السهل علينا أن ندرك معنى التربية لنبتة أو لزرع، ومعنى تربية طفل أو شخص، ومن اليسير علينا أن ندرك المراد من قولنا المعلم مربٍّ، وأن ندرك مجال تربيته، والنواحي التي يخصُّها بعنايته، وربُّ البيت ورب العمل.
وكذلك الأمر بالنسبة للمرشد والرسول ﷺ ، وبصورة أعم نستطيع أن ندرك طرفاً من تربية الله تعالى لهذا الإنسان وعنايته به وإمداده إيَّاه بما يلزم، منذ أن كان جنيناً في بطن أمه، حتى أضحى طفلاً رضيعاً، وما كان يرافق هذه الطفولة من العناية الإلٓهية في تسخير الأم، إذ شحن تعالى قلبها بالعطف والحنان، إلى أن أصبح إنساناً سوياً ورجلاً كاملاً، ثم دوام هذه التربية واستمرارها عليه، حتى آخر لحظة من لحظاته.
ويضيق بنا المجال ولا تتَّسع بطون الكتب لشرح معنى كلمة (رب)...
ونحن وإن كنا لا نستطيع أن نجد لهذه الكلمة نهاية، غير أن ذلك لا يمنعنا من التقريب لذهن القارئ من معناها بعض الشيء، فلعلَّه إذا هو فكَّر أدرك طرفاً من هذه التربية، ووجد نفسه على شاطئ بحر خضم منها، لا يُدرك لها قراراً ولا تُحدُّ بحدٍّ، وهنالك يعظِّم المربِّي جلَّ شأنه ويقدِّره، وتخشع نفسه له، وتعلم أن الحمد كله له، وتشهد ذلك. فتهيم نفس المصلي به تعالى هياماً، وتسري إليه تعالى، فتشتق منه نوراً، ترى به الحقائق والحِكَم.
أرأيت تربيتك في بطن أمك، إذ جعلك تعالى في مستودع محفوظ من كل أذى وضرر ذي حرارة مناسبة وجو معتدل، يأتيك رزقك رَغَداً بأصول ونظام تحار له العقول، وأنت تسبح في الماء، لا يضرك شيء من الأشياء، يُساق لك الدم صافياً نقياً، والغذاء كاملاً، وتُخلَق خلْقاً من بعد خلْق، حتى تغدو إنساناً سوياً.
فمن الذي كان يعتني بتربيتك آنذاك؟. أهي أمك أم أبوك؟. وهل يدرك الأب أو الأم أن في بطنها ذكر أم أنثى؟!... ومن هو المربِّي لك في ذلك الطَوْر؟. أليس هو الله تعالى صاحب العطف والحنان؟.
هل جلست تفكِّر بعنايته بك في هذه الفترة من حياتك؟.
وهل جلب انتباهك هذا الدور؟.
وإذا نزلت إلى هذه الدنيا وواجَهتْ عيناك النور، من هو الذي كان يُحضِّر لك اللبن سائغاً رويّاً في ثديي أمِّك؟. أهي أمك أم أبوك أم أحد من الناس؟!.
من هو الذي كان يبدِّل لك معاييره يوماً من بعد يوم؟. أم من هذا الذي أودع في قلب أمك العطف عليك والحنان، وجعلها تحزن لحزنك، وتفرح لفرحك، وتمرض لمرضك، وترضى أن تضحِّي براحتها راغبة في سبيل تأمين راحتك؟.
والآن وقد بلغت أشُدّك وأصبحت رجلاً، هل فكَّرت في من يقدِّم لك صنوفاً وألواناً وأنواعاً متنوعة من الأغذية والثمار؟. هل يستطيع مخلوق أيّاً كان أن يصنع ثمرةً واحدة بمصانعه، زيتونةً كانت أم برتقالة؟!. ومن ينزِّل لك من السماء الثلوج والأمطار؟. ومن الذي سَلَكَ لك في الأرض الينابيع والأنهار ؟.
ومن الذي جعل لك الأرض كرة سابحة في الفضاء تدور حول نفسها، فيتولَّد في ذلك الليل والنهار؟. من يحملها ويحمل الكون ويسيِّره؟. هل يستطيع مخلوق فعل ذلك؟. أم هو الله ربك، وربُّ العالمين؟!.
وهل نظرت إلى الشمس وما يأتيك منها من حرارة وضياء وإشعاع، والقمر وما هو عليه من نظام تتعرَّف به إلى السنين والحساب, والهواء وما فيه من غازات نافعة بنسب معيَّنة، لا تستطيع أن تظل بدونها ساعة من نهار؟. من الذي شحن الهواء بهذه الغازات الضرورية للحياة؟. ومن الذي جعل الليل والنهار خِلْفةً، وبهذا القدر المناسب للراحة والحياة؟. من المرتِّب، من المنظِّم؟. أتسمع ممن سواه وإليه مصيرك بعد الفراق لأبد الآباد؟!...
من الذي خلق لك البحار وملأها بالماء, وجعل ماءها ملحاً أُجاجاً لا يفسد؟. هل أحد من المخلوقات؟. انظر فضله عليك ورحمته بك، لِمَ لا تفكر بذلك!. فكر لتكسب وتغدو عالماً..
ما هذه الرياح المستمرة في طوافها بنظام وقوانين على سطح الأرض، تأتي بالخير وتبشِّر بالمطر وتجدِّد الهواء؟. هل أتت بها دول شرقية أم غربية، أم يدُ خالقها العظيم؟!. انهض بنفسك مفكِّراً وأرها وجوده تعالى من ثنايا خلْقه وصنعه، قبل انتهاء الأجل وفراق الدنيا ومن فيها ليسعدك ويهديك وبجناته يؤويك.
ما هذه المعادن المودوعة في باطن الأرض؟. ما هذه الأتربة وما هذه الأملاح؟. من الذي ألقى في الأرض من كل زوج اثنين من الكائنات، وبثَّ فيها من كل دابة؟. أليس ذلك كله ضرورياً للحياة؟. أليس ذلك الممد المربِّي هو الله؟. هلا فكَّرت به وطلبت الوصول إليه شكراً لفضله؟.
وهل فكَّرت بشيء من عنايته بك، وعرفت معنى كلمة (الرب).. الذي يربِّيك في هذه الحياة؟!.
وأوجز القول وأنتقل إلى كلمة: {الْعَالَمِينَ}:
معنى كلمة (العالمين)
إن كلمة (الْعَالَمِينَ).. هي جمع عَالَم، والعالم: تشمل المخلوقات ذوات الصفات الواحدة التي تشترك بعضها مع بعض في هذه الحياة: فالنمل عالم، والطير عالم، والأسماك في البحار عالم، والنباتات عالم، والمواشي عالم، والإنسان عالم، والنجوم السابحات في الفضاء عالم، والجراثيم عالم، حتى أن عالم الطير يضم عوالم عديدة، وكذلك عالم الأسماك يشتمل على أنواع شتّى وعوالم متنوعة.
وفي الإنسان عوالم كثيرة، من كريات بيض وكريات حمر، ولكل من الكريات أنواع وأشكال ووظائف وأعمال، وتوالد وتكاثر وغذاء ووسط مناسب للحياة، وفي الإنسان ما فيه من عوالم لا تُحصى، وما يعلم بها إلَّا الله القائم عليها بإمدادها بالحياة والنماء والبقاء، لتؤتي خيرها. ولو أنك دقَّقت وفكَّرت بعض الشيء. لشاهدت ورأيت ولطأطأتْ نفسُك مقرّةً بجلال الله وعظمته وقدرته، ولرأيت أن الله تعالى واسع عليم، وأنه سبحانه العزيز الحكيم، والرؤوف الرحيم. فهو المتكفل بها، بخلقها وإمدادها وتسييرها وحده، ولا أحداً سواه، فالتفت بنفسك إليه، تحظَ بخيرات دائمية أبدية متنامية.
وهكذا ففي هذا الكون الخضم عوالم، وفي كل شيء عوالم لا يعلم بعددها إلا خالقها وموجدها، ولكل عالم من هذه العوالم شرائط للحياة، وإمداد خاص بها، وأصول للتوالد والتكاثر، وأنواع منوَّعة من الأغذية. وهذه العوالم التي على سطح الأرض ذات مقادير وأعداد ونسب معيَّنة، وقوانين للحياة:
{...وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}: ما يلزم الكون، ما يلزم كل إنسان، عدد الذكور والإناث، المقادير، الحجوم، كله عنده بمقدار، وكل إنسان وله وقت معلوم. {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} سورة الرعد: الآية (9). ما في نفسك وما هو ظاهر، الغيب والشهادة، معلومان عنده، مهما استعظمت، هو أكبر وأعلى، ماله تعالى حدّ.
وهذا الرب الممد لهذه العوالم كلها، القائم عليها والمتكفِّل برزقها والممد لها بالحياة، هو الله تعالى وحده، رب العالمين.
فلو طلبته وصدقت بطلبه لوجدته. ولشاهدت أسماءه الحسنى عليك وحبَّه الكامل لك وعطفه الشامل، ولهمت به تعالى، ولنلت فوق نوال العالمين.
المؤمن الكافر كلاهما... يحمـدان الله بالآخرة بعـد كشـف الغطاء
فالابن الرشيد العاقل حينما ينضج ويكبر، يحمد كل ما قام به والده بسن صغره تجاهه، من تصرُّفات على اختلاف وجوهها، من عطاء أو منع، شدة أو رحمة، غضب أو رضى، أي يقرُّ نفسياً بحسن هذه التصرُّفات، ويحترم تلك المعاملة التي عامله بها أبوه حتى رفع من سويته العلمية والخُلقية.
فأنا حينما أرى أن المرض قد زال عني وخلصت منه، وحينما أرجع إلى معالجة الطبيب وعنايته بي حتى خلَّصني مما كنت أشكو منه، وشعرت بالصحة قد عادت لي من بعد ألم ومرض، أجد في نفسي تقديراً واعترافاً بفضل هذا الطبيب وأرى جميع تصرُّفاته ومعالجاته إيَّاي مهما كان نوعها. إنما كانت حسنة إذ أن غاياته جميعها كانت شفائي وخلاصي مما كان بي، فأرى الخير فيما وصف لي من الأدوية الكريهة المرّة، وفي تلك المعالجات الشديدة حتى أنني أرى الخير بما قام به هذا الطبيب من جرحٍ جرحني به، وألم أثاره في بعض نواحي جسمي، تبيَّن لي الآن عواقب ذلك كله، وقد عادت عليَّ بالخير والشفاء والسعادة، وكذلك الطالب حينما يصبح رجلاً وجيهاً في المجتمع، ذا منصب رفيع في عمله، ومعرفة عالية بين ذويه، وعندما يرى شأنه العالي ومكانته السامية التي أصبح عليها، هنالك يحمد معلِّمه، أي: يرى الخير فيما قام به تجاهه من تصرُّفات، مهما كان نوعها ومهما كانت صورتها، حتى أنَّه ليقرّ معترفاً في قرارة نفسه، بأنَّ ضَرْب معلِّمه ومعاقبته وحرمانه إيَّاه في بعض الأحيان من الطعام، وشدته عليه، إنما كانت كلُّها خيراً، وهي لا تختلف عنده في شيء عن مدحه ومكافأته وثنائه عليه.
التضييق والحرمان كلاهما عند هذا الطالب سيَّان في الخير، إذ لولاهما لما استقامت نفسه، ولما كدَّت وجدَّت في سبيل التعليم، وبالتالي لما نالت تلك المنزلة الرفيعة، ولما بلغت ذلك الشأن العالي في المجتمع، فهو يحمد معلِّمه على ما قام به تجاهه من تصرُّفات لأنها كلها خير وإحسان.
وكذلك بالنسبة للابن الرشيد مع أبيه، والمريد الصادق مع مرشده ودليله إلى الله، والمؤمن مع رسوله، والإنسان تجاه خالقه ومربِّيه، فهذا الإنسان حينما يرى مثلاً أن هذه الأمراض التي ساقها الله تعالى له في الحياة، وأن الفقر والمصائب والهموم والكروب والشدائد في الحروب، إنما كانت سبباً في توبته إلى الله، وخلاص نفسه وتطهيرها مما بها من العلل والأمراض، تراه حينما يشعر بالصحة النفسية، يحمد الله تعالى على ما تفضَّل به عليه، ويرى الخير في جميع تلك المعاملات التي عامله بها تعالى، مهما كانت شديدة، ومهما كانت مؤلمة، بل يعلم أنها استحقاق وقع عليه، بسبب ما كسبت يداه من أعمال لولاها ما جاءته شدة، ولولاها لما تطهَّرت نفسه من الأدران، ولما تمحَّصَ ما في قلبه، ولما سلك في طريق الحق وابتعد عن طرق الغواية والهلاك، بل لكان ألمه النفسي، ولكانت دناءته وانحطاطه، أشدّ عليه من جميع تلك الشدائد، من مرض أو فقر، أو خوف وفزع وضيق.
ذاك كله يراه المؤمن في الحياة الدنيا، فيحمد الله تعالى عليه في دنياه قبل موته، فإذا كانت الآخرة، وكانت الحياة الطيبة، وأضحى هذا المؤمن في جنان الخلد يستغرق في النعيم، فهنالك يحمد الله تعالى حمداً لا نهاية له، حمداً لا يُوافي نِعَمَ الله ولا يُكافئ مزيده، لأن نعمه تعالى لا تتناهى، وكل حمدٍ مهما عَظُمَ، ففضله تعالى أعظم، ونعمته سبحانه أكبر وأكبر.
أما الكافر، فيحمد الله تعالى في الآخرة، يحمده على أن ساق له في الدنيا ما ساق من شدائد، كلها بسبب ما قدَّمت يداه وكانت في مصلحته ولخيره، ويحمده على أن خلق له النار، لأنه يرى أن احتراق جسده بها وشديد إيلامها، أهون عليه مما يخالج نفسه ويلازمها من حسرة على ما فرَّط في الحياة الدنيا، ومن خزي ودناءة وانحطاط ماثل أمامه، بسبب أعماله التي قدَّمها، حتى أنه ليشتد في طلب النار ويتطلَّبها، حتى يستجيب له ربُّه، فإذا ما صار إلى النار وذاق عذاب حريقها، وكان ذلك الألم الجسدي من عذاب الحريق، سبباً في غيبته عن آلامه النفسيَّة المرهقة التي لا تُطاق، وسبباً في احتجابه عن عاره وخزيه ودناءته وحسراته، فهنالك يحمد الله تعالى على استجابته له، وأمره تعالى بإيوائه هذا المثوى، ليخلص بهذه النار، مما يُقاسي من أهوال نفسه وآلامها الكبرى. وفي الحديث الشريف:
«إن العَارَ ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول يا ربِّ لإرسالُكَ بي إلى النارِ أيسرُ عليَّ ممَّا ألقى، وإنه ليعْلَمُ ما فيها من شِدَّةِ العذاب» الجامع الصغير: /2059/ (ك). عن جابر (ح).
وهكذا فأهل الجنَّة يحمدون الله تعالى، لِمَا يتفضَّل عليهم من فيوضات تجلِّياته العلى ونعمه، وأهل النار يحمدونه لأنه خيَّرهم فاختاروا الأدنى وأصرُّوا، فما أجبرهم وما منعهم، بل منحهم كامل شهواتهم التي ابتغوها بدنياهم، وما طلبوه أعطاهم بالتمام وما ظلمهم، بل هم ظلموا أنفسهم ومرَّضوها، وذاك العلاج هو المناسب لها، وكل الخلْق يومئذٍ يرونَ فضل الله تعالى عليهم، وعظيم إحسانه إليهم، قال تعالى:
{...وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} سورة يونس: الآية (10)