لا شك ولا ريب أنَّ الإنسان أوَّل ما يخرج إلى هذا الكون من بطن أمه لا يعلم شيئاً، وقد جعل له تعالى السمع والبصر والفؤاد، فإذا ما كبر وبدأ يُدرك ما حوله وأخذ يتعرَّف إلى الأشياء فيتفحصها ويقلِّبها ويسبر مدى مقاومتها ومدى قوته في التغلُّب عليها وجعل يصدمها بعضها ببعض ليتعرَّف إلى أصواتها وتأثيراتها ببعضها بعضاً، ثم ينمو إدراكه ويبدأ يميِّز فيتطلَّع إلى السماء وما فيها من شمس وقمر ونجوم متلألئة، وينظر إلى الأرض وما عليها من بحار وأنهار وجبال وإنسان وحيوان فيتساءل لماذا تلمع النجوم؟. ومن أين تأتي الغيوم؟. وأين تذهب الشمس في المساء؟. وقد يصل به الأمر فيسأل عن الله تعالى فيقول أين الله؟. حقّاً أين الله!. وقد يذهب بالبعض الحال لأن يسأل هل له عينان فيرى، وهل له آذان فيسمع، أم هل له يد فيبطش، أم هل له رِجلان فيمشي عليهما!. هل له جسم، أم لا! فهل يأكل أو يشرب، هل يُرى.. أين هو؟. ما هو الله، ما ماهيته، فهل شاهده أحد؟. حقّاً هل يُشهد ويُرى.. من رآه؟.
ليس السؤال عن الآثار، بل عن ذات الله، ما الذات الإلۤهية، وأين هو حقّاً موجود؟!.
أجيبونا بعلم أيها المؤمنون!.
هكذا قال الشاعر الإنكليزي الكبير "ويليام شكسبير"..
كانت تساؤلاته تدور حول ماهية الإلۤه قوله: إذا لم تكن له عينان ويدان ورِجلان ولا يسمع صوته أحد ولا يُرى، فهل هو وهمٌ. نحن نريد أن نعيش بالمحسوس الملموس لا بالأوهام، هل ننكر المحسوس الملموس والواقع لنعيش بتصورات وتخيُّلات.. عندها هَجَرَ الدين. هل نعبد ما لا نرى ولا نسمع.
الإيمان: الإيمان شهود وحقيقة، ودين الإسلام دين حقائق.. الإيمان الحق الشهودي علم نفسي وشهود يقيني تشهده النفس في ذاتها وتعقل الوجود الإلۤهي في سرِّها فإذا هو حقيقة يقينية مستقرَّة فيها تخالطها وتمازجها ولا تنفكُّ أبداً عنها.
الإيمان حقيقة نفسية معنوية تبدأ شهوداً بالعين لآيات صنع وعظمة منشئ الأكوان ومحيي الكائنات الحية ومميتها، تصل بعدها نفس طالب الإلۤه لأنوار الإلۤه العظيم وتشاهد جماله الساري على الوجود والورود والأزهار والكائنات الفاتنات والتي هي أثر بسيط من جلال جماله تعالى.. فكلُّ روعةٍ وفتنة انعكاس من إمدادات جماله الصاعق. وتشاهد عظمته ووسعته تعالى من خلال عظمة الجبال الشاهقات المستعليات الراسخات ووسعة صنعه بالبحار والسموات.
الإيمان الصحيح لا يأتينا من غيرنا، بل إنما ينبعث في قرارة نفوسنا ويتولَّد في قلوبنا. الإيمان حقيقة معنوية تسري في نفوس طالبي الحق تعالى والحقيقة المجرَّدة والدين الحق.. تسري سريان الكهرباء في الأسلاك والماء في الأغصان والحياة في الأجساد، يُشرق في النفوس فتشعُّ فيها نور المعرفة وعلم اليقين والحياة العلوية السامية المنعكسة على الأجساد فلا شقاء بعدها ولا نكد، لا خوف ولا جبن.. لا ذلة ولا مسكنة، لا خشية في الحق للومة لائم، فكلُّ ما على التراب تراب، لا شهوةً منحطة لها أدنى تأثير على قلبٍ مؤمن إيماناً ذاتياً، بل سموٌّ وعلو، تدلُّ على هذا الإيمان الحق الصفات الحسنة والمعاملات الطيبة الممزوجة بالإنسانية الحقيقية النزيهة المجرَّدة عن الغايات المنحطة وعن المصالح الذاتية والمنافع الدنيوية، كما تدلُّ عليه الأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة التي ترفع شأن المؤمن عند ربِّه وعند الناس، ويشعر به المؤمن في صميمه فيطمئن به قلبه وترتاح به نفسه وتنقشع أمامه الشكوك والشُبَهْ وتنمحي به الظلمات عن القلب فيرى.
العين ترى والقلب يرى.. "العين ترى جمال الدنيا وجمال المراه"، والقلب الخاشع من ذكرى الموت المشاهد لربِّه من آيات صنعه الكونية يرى جلال الله.. عظمة الله.. جمال الله ويستقي بقلبه جمالاً وجلالاً من حضرة الله تتضاءل تجاهه عظمة وجمال وجلال الكائنات المادية بأسرها، فمن شَهِدَ الخالق صَغُرَ المخلوق في عينه؛ فارجع البصر بالآيات كرَّتين يا موقن بلقاء ربِّك ينقلبْ إليك البصر ومشاهداته وهي خاسئة والبصر حسير.
المشاهدة الحقيقية بعين البصيرة لا بعين البصر، والإيمان شهود: أشهد أن لا إلۤه إلاَّ الله، فمن خافت نفسه على مستقبله وحسب حساب الانتقال ومواراة جسده بالقبر ليسأل نفسه: هل توصَّلَتْ إلى هذا الإيمان الصحيح، وهل هي سلكت وتابعت خطواتهِ ومراحلَه واحدة إثر أخرى من النظر الجدِّي بالموت وما بعده، وبالسماء وآياتها، ثم بالغيوم والرياح والأنهار والجبال... فإن فعلت وصلت وإلاَّ فاستمع لإرشاد أهل الاتصال والوصول بالأصول يُرشدوك.
الإيمان ليس مجرَّد كلام نقله المرء عن الآباء والمعلِّمين والمجتمع نقلاً، بل هو شهود ذاتي وعقل، وما نقله المرء نقلاً ولم يُشاهده فيعقله عقلاً، أي: يشاهده بقلبه، {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ في قُلُوبِكُم..} سورة الحجرات، الآية (14) : وسيدخل بإذن الله.
فالنقل والإقرار إسلام والشهود بلا إلۤه إلا الله إيمان.. والفرق شاسع والبون عظيم. والله تعالى يُدافع عن الذين آمنوا {..وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنينَ} سورة الروم، الآية(47) .. فإن رمت السمو الإنساني والعلو الأبدي فعليك بسلوك طريق الإيمان الذاتي تربَتْ يداك، إذ الإيمان أساس كلّ خير ولا عمل عالٍ وصالحٍ إلاَّ بالإيمان.
فحذار أن تضيِّع عمرك بدون الإيمان سدى فتخسر بالشيخوخة وبعد الانتقال لعوالم الحقائق غداً. وكفى بالإنسان سموّاً أن يؤمن، إذ الإيمان كمال الإنسانية.